أقلام مختارة

مصر وقطر.. تعاون الضرورة السياسية

مرت العلاقات بين مصر وقطر بمطبات وعراقيل وتوترات عدة في السنوات الماضية، ولم يتوقع كثيرون أن تتم تنقية الأجواء سريعا بينهما، وقد أسهمت الحرب على قطاع غزة بدور حيوي في خلق تعاون سياسي بينهما، بحكم دورهما في الوساطة بين إسرائيل وحركة حماس، حيث لدى كل منهما أوراق تمكن من التحرك بين الطرفين، فمصر بحكم الجغرافيا السياسية والارتباط التاريخي بالقضية الفلسطينية يصعب تهميشها، وقطر اكتسبت دورها من العلاقات المتنامية مع كل من إسرائيل وحماس، وقدرتها على إدارتها بطريقة ذكية تمكنها من إحداث توازن بينهما.

قطع بيان مشترك لمصر وقطر، الأربعاء، الكثير من الشكوك التي أحاطت بالعلاقة بينهما في عملية الوساطة، إذ أكد على الرؤية الموحدة وعدم وجود ما يعكر صفو الروابط بينهما، في إشارة إلى أن روافد ما يسمى بفضيحة “قطر- غيت” تم تجاوزها، حيث أذاعت وسائل إعلام في إسرائيل معلومات، مفادها أن الدوحة دفعت أموالا طائلة لمسؤولين في مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لحثهم على القيام بتشويه صورة مصر في الوساطة، ومحاولة تقزيم دورها الإقليمي، وهو ما لم تعلق عليه القاهرة رسميا، وبدا نفي قطر الرسمي سابقا ثم البيان المشترك لاحقا معبرين عن تجاوز عقبات فضيحة قطر، وأن التعاون بين الجانبين تفرضه دواع سياسية كبيرة.

من أبرز هذه الدواعي أن مصر عرفت أغراض قطر جيدا، وفهمت توجهاتها وغاياتها، وأن علاقتها العضوية بحركة حماس تضمن لها مكانة ثابتة في الوساطة، فضلا عن خبرتها الطويلة في التعامل مع الحركات الإسلامية التي تستطيع تحريكها في اتجاهات متباينة، فعندما هدأت العلاقات بين القاهرة والدوحة كفت الجزيرة وأخواتها عن الهجوم الضاري ضد النظام المصري ورفعت يدها قليلا عن دعم جماعة الإخوان للنيل من الدولة المصرية، وأكد التحسن التدريجي بين البلدين أن هناك شبكة مصالح يمكنها أن تلتقي عند قناة الوساطة بين إسرائيل وحركة حماس.

كما أن غياب قطر أو النيل منها أو حتى التشكيك في نواياها لن يترك مصر حرة وبمفردها في الوساطة، فإسرائيل لن تقبل دورا حيويا للقاهرة في المنطقة، وثمة جهات، مثل تركيا، تتطلع إلى المزاحمة في هذه العملية، ناهيك عن أن قطر مدعومة من الولايات المتحدة والتنسيق بينهما بلغ حدا كبيرا، ومهما كانت انتقادات تل أبيب للدوحة فهي تظل خيارا مقبولا لها، من منطلق الدور الذي لعبته في توصيل واستقبال رسائل من حماس وقدرتها على تطوير مواقفها.

ومع أن قطر لوحت بانسحابها من عملية الوساطة عندما شككت وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية في دورها ومساندتها لموقف حركة حماس، غير أنها تجاوزت تهديدها وعادت لتحتل مقعدها، بجوار مصر، في الوساطة بين إسرائيل وحماس.

تتعامل مصر مع التحديات الإقليمية التي تحيط بها من جهات مختلفة بدرجة عالية من البراغماتية، وساعدتها واقعيتها في تخطي بعض العقبات، فموقفها من قطر لم يكن “ديماغوجيا” أو غوغائيا، وما حدث فيه من تغير فرضته ضرورات أمنية وسياسية، وهو ما تكرر مع تركيا، فالأوضاع المتقلبة في المنطقة لا تمكن أي دولة من اللجوء إلى الترف في التفاعلات الخارجية أو العمل بالمعادلة الصفرية الشهيرة (مكاسب طرف خسائر للطرف الآخر، والعكس صحيح)، فالدولة الصغيرة (قطر) من حيث المساحة وعدد السكان نجحت في أن تصبح مؤثرة، وهي حقيقة لا أحد ينكرها.

ولعل استمرارها في عملية الوساطة حتى الآن، وتمدد نفوذها في قضايا إقليمية مهمة مثل سوريا، وعلاقتها المتطورة مع إيران، رغم العداء الأميركي الظاهر لها، يكفي للتدليل على خطورتها السياسية، ومن مصلحة مصر البناء على القواسم المشتركة معها في القضية الفلسطينية، وتجنب هوامش الخلاف معها.

لا أحد يعلم طبيعة دور قطر بعد وقف الحرب على غزة، فقد يتلاشى مع خروج حماس من اللعبتين السياسية والعسكرية في القطاع، لكن لا أحد يقول إن دور مصر سوف يغيب في المستقبل، إذ يصعب إنكار عوامل الجغرافيا أو إغفال العلاقة التاريخية أو تجاهل مقتضيات الأمن القومي، وأي تعاون بين القاهرة والدوحة في عملية الوساطة بين إسرائيل وحماس هو تعاون مرتبط بوظيفة محددة، مهما استمرت سيأتي اليوم الذي تتوقف فيه ويتم التخلي عنها.

ربما تكون الدوحة استعدت لهذه اللحظة الحرجة وتمتلك بدائل في مرحلة اليوم التالي لتوقف الحرب على غزة، وربما تريد استمرار الصراع وتنفخ في الحلقات التي تمثل ضعفا في ملف الوساطة، خوفا من اختفاء دورها في إحدى أهم القضايا الإقليمية حساسية وحيوية، لكن يصعب تطبيق هذه النوعية من الاستنتاجات على مصر، التي من مصلحتها وقف الحرب وما حملته من تداعيات سلبية عليها بأسرع ما يمكن، ولديها الكثير من البدائل والأدوات للتأثير في المنطقة، ولم تكتسب دورها في عملية الوساطة مجاملة أو زيفا وخداعا، بل بحكم الأمر الواقع، وما تفرضه الأوضاع من ديناميكيات في استحضار دورها، فإن غابت أو تم تغييبها يمكن أن تختل بعض التوازنات.

ما ظهر على السطح من تعاون بين مصر وقطر لا يعني أنه شيك على بياض أو حالة دائمة، فالمرتكزات التي تستند عليها سياسات كل دولة مختلفة في جوانب متعددة، في مقدمتها النظرة إلى إسرائيل كمشكلة إقليمية، حيث يؤدي تغولها إلى تفاقم الصراعات، وخلق أنماط جديدة منها، كذلك آليات التعامل مع حماس واحتضانها فترة طويلة من جانب قطر. نعم قد تلجأ الدوحة إلى التنصل منها أو تخفيف درجة رعايتها، كما حدث مع حزب االله اللبناني، لكن في النهاية قطر محكومة بمعادلة أميركية لن تستطيع الفكاك منها أو التلاعب بها، الأمر الذي فهمته مصر جيدا وتعاملت معه بحكمة الفترة الماضية، ولم تفتعل مشكلات مع قطر، وهضمت ما يمكن أن تفضي إليه في وقت تصاعدت فيه حدة فضيحة “قطر- غيت”.

قطر ليست دولة تطمح إلى توسيع نطاق دورها الإقليمي واكتساب وظائف جديدة تتناسب مع طبيعتها، بل أيضا تملك ثروة طائلة، تمثل رافعة للدور السياسي الذي تسعى للقيام به، ما يجعل القاهرة تبتلع ما قد يصعب ابتلاعه منها، حيث يتم الرهان على زيادة الاستثمارات القطرية في مصر، وتوسيع الآفاق الخليجية من خلال عدم حصر الاستثمارات في دولة واحدة، كما أن التنوع يدعم الاقتصاد المصري ولا يجعله أثيرا لدولة خليجية معينة، فهناك ما يشبه التنافس الخفي، الذي يساعد على تلقي المزيد من رؤوس الأموال، ولا يخلو من أبعاد سياسية وتقديرات لها علاقة بالموقف من بعض القضايا الإقليمية، ما يعني أن الضرورات الاقتصادية تبيح المحظورات السياسية.

عن صحيفة العرب اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى