السلايدر الرئيسيتحقيقات

بين الفتوى والسياسة… قانون جديد يقلب موازين القوى بين الأزهر والدولة في مصر

من سعيد هنداوي

القاهرة – يورابيا ـ من سعيد هنداوي ـ في خطوة جديدة تعكس إعادة ترسيم موازين القوى داخل المؤسسات الدينية في مصر، أقر مجلس النواب المصري، بأغلبية محسومة، قانونًا جديدًا ينظم إصدار الفتوى الشرعية، وسط رفض معلن من مؤسسة الأزهر الشريف، واتهامات بأن الهدف الحقيقي هو تحجيم دور الأزهر التاريخي وتقليص نفوذه لصالح مؤسسات دينية بديلة أكثر ولاءً للسلطة التنفيذية.

قانون يعيد توزيع الفتوى

القانون الجديد، الذي أقر في 11 مايو 2025 بعد موافقة اللجنة الدينية بمجلس النواب برئاسة المفتي السابق علي جمعة، ينص على تقاسم صلاحيات الإفتاء بين أربع جهات: هيئة كبار العلماء، مجمع البحوث الإسلامية، دار الإفتاء المصرية، ووزارة الأوقاف. ولأول مرة، يمنح هذا القانون حق إصدار الفتوى لوزارة الأوقاف، ما اعتبره علماء وأساتذة أزهريون “تعديًا على اختصاص الأزهر” الذي نص عليه الدستور كمصدر أساسي للعلوم الدينية والفتوى.

ورغم محاولات تهدئة الموقف بإضافة بنود تنص على خضوع لجان الأوقاف التدريبية لإشراف الأزهر، ومنح “هيئة كبار العلماء” حق الترجيح في حال التعارض بين الفتاوى، فإن المشيخة رفضت القانون جملة وتفصيلًا، مؤكدة أنه يُفقدها اختصاصًا دينيًا أصيلًا، ويخلق “فوضى منظمة” باسم التنظيم.

من دار الإفتاء إلى الأوقاف: مشهد مزدوج

القانون يُعد امتدادًا لمسار بدأته الحكومة المصرية منذ سنوات، عندما جرى فصل دار الإفتاء عن الأزهر عام 2021، وجعل المفتي منصبًا مستقلاً يُعيّن من قبل رئيس الجمهورية، في سابقة لم تحدث منذ قرون. وكان ذلك بمثابة ضربة أولى لمشيخة الأزهر، تبعتها عملية تشريعية ممنهجة لإعادة هندسة السلطة الدينية، وخلق كيانات موازية تُمكّن الدولة من التحكم في محتوى الخطاب الديني.

ويرى مراقبون أن وزير الأوقاف الحالي أسامة الأزهري – المعروف بقربه من دوائر السلطة – يلعب دورًا محوريًا في هذه التحولات، من خلال دفع مشروعات القوانين التي تمنح وزارته صلاحيات دينية جديدة، تحت لافتة “ضبط الفتوى” و”تجديد الخطاب الديني”.

انتقادات واسعة من داخل الأزهر

في جلسات مناقشة القانون داخل البرلمان، أعرب ممثل الأزهر الدكتور محمد الضويني عن رفضه القاطع لمشاركة وزارة الأوقاف في الفتوى، مشيرًا إلى أن هذا الاختصاص يجب أن يظل حكرًا على “هيئة كبار العلماء”، باعتبارها المرجعية الدينية العليا في البلاد.

كما نفت مشيخة الأزهر ما رُوج بشأن موافقتها على إنشاء لجان فتوى مشتركة، مؤكدة أن ما طُرح مجرد “محاولات لتسويق القانون إعلاميًا”، دون توافق حقيقي مع المؤسسة.

ويؤكد أساتذة من جامعة الأزهر أن القانون لا ينظم الفتوى بقدر ما يُعدد جهاتها، مما يفتح الباب أمام تناقضات دينية، وربما استغلال سياسي، لا سيما في القضايا الجدلية مثل الطلاق، الفوائد البنكية، أو المواقف السياسية المتصلة بالشأن العام.

المادة الدستورية في الميزان

الدستور المصري، في مادته السابعة، ينص صراحة على أن “الأزهر الشريف هو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية”. وسبق أن قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية مشروع قانون دار الإفتاء في نسخته الأولى عام 2020، وهو ما دفع الحكومة المصرية إلى تعديله لتفادي الطعن، مع الحفاظ على جوهره بفصل المفتي عن المشيخة.

اليوم، يرى خبراء قانونيون ودستوريون أن قانون تنظيم الفتوى الجديد قد يواجه المصير نفسه، حال الطعن عليه أمام المحكمة الدستورية، باعتباره يخل بمكانة الأزهر الدستورية ويمنح مؤسسات تنفيذية – كوزارة الأوقاف – صلاحيات دينية ليست من اختصاصها.

أبعاد سياسية وتاريخية

محللون يرون أن ما يجري يتجاوز كونه “إصلاحًا دينيًا”، ويصب في إطار إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والدين في مصر، وهي علاقة شهدت تحولات كبرى منذ ثورة يناير 2011، حين صعد الأزهر مجددًا كمؤسسة وطنية ذات وزن جماهيري وروحي.

ويرى المراقبون انه بات واضحًا سعي الحكومة المصرية لخلق هياكل دينية بديلة موالية، تسهّل تمرير خطط الدولة، بدءًا من “تجديد الخطاب الديني” وصولًا إلى ضبط الفتوى وفق الرؤية الرسمية. وضمن هذا المسار، جرى تعيين مفتي الجمهورية من الرئاسة، واستقلال دار الإفتاء، والآن منح وزارة الأوقاف صلاحيات دينية شاملة.

السيناريو القادم: توازن أم صراع؟

الخطر الحقيقي، وفق عدد من علماء الأزهر، لا يكمن فقط في تعدد جهات الإفتاء، بل في إمكانية توظيف ذلك لخدمة توجهات سياسية، بما يقوض المرجعية الدينية الموحدة، ويفتح الباب أمام فتاوى متناقضة قد تستخدم لتبرير سياسات الدولة، على حساب الثوابت الدينية.

ويحذر مراقبون من أن ما يجري قد ينتهي بصدام صامت – أو معلن – بين مؤسسات الدولة الدينية، وربما تفكيك تدريجي للأزهر كمؤسسة جامعة، لصالح منظومة “دينية رسمية متعددة الأذرع”، تُمكّن الدولة من بسط سيطرتها الكاملة على المجال الديني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى