يتفق المتابعون لمسار العلاقات التاريخية بين واشنطن وتل أبيب على أن الخطوات الأخيرة التي أقدم عليها الرئيس الأمير دونالد ترامب، حيال منطقة الشرق الأوسط، جاءت خارج السياق التقليدي الذي ميّز هذه العلاقة عبر عقود طويلة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
وقد بدأت الانعكاسات السلبية لهذا “السلوك الترامبي الجديد” بالظهور بوضوح، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي في إسرائيل، متّقدةً على “نار هادئة” أشعلتها الإدارة الأميركية في مسعاها لإعداد عدة “طبخات” للمائدة الشرق أوسطية، لا تبدو في مجملها مُغرية لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي قطع حتى الآن شوطًا كبيرًا في إعداد “طبخته الخاصة” لمائدة “الشرق الأوسط الجديد”.
الواضح في هذا السياق أن الكيمياء السياسية بين الرجلين، ترامب ونتنياهو، شبه معدومة، نتيجة جملة من العوامل المعروفة، أبرزها:
أولًا، استمرار المفاوضات غير المباشرة بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، في مسقط وروما، بشأن تسوية أزمة البرنامج النووي الإيراني.
ثانيًا، نجاح الاتفاق المفاجئ الذي توصل إليه الأميركيون مع الحوثيين، بشأن وقف الأعمال العدائية بين الطرفين.
ثالثًا، تراجع واشنطن عن إدراج شرط “التطبيع” بين السعودية وإسرائيل، الذي كان يشكّل عائقًا أمام التقدم في ملف التعاون النووي السلمي بين واشنطن والرياض.
رابعًا، استبعاد الرئيس ترامب لإسرائيل من جدول جولته المقبلة التي تشمل السعودية والإمارات وقطر.
خامسًا، إعلان الولايات المتحدة عن نيتها الانفراد بإعداد خطة مرتقبة، قريبًا جدًا، لتسوية الوضع الكارثي في قطاع غزة بشكل نهائي.
هذه العوامل الخمسة مجتمعة توحي بأن مؤشر التوتر بين ترامب ونتنياهو بات في حالة اضطراب وعدم استقرار. ومع ذلك، فإن هذا التوتر، مهما بلغت حدّته، يظل في جوهره شخصيًا ولا يمكن تعميمه على المواقف الرسمية أو الحزبية أو الشعبية في المجتمعين الأميركي والإسرائيلي.
صحيح أن ديناميكية ترامب في تشكيل فريق إدارته الجديدة أوحت، منذ انتخابه في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بأن الولايات المتحدة مقبلة على تغييرات جوهرية في مسارات سياساتها الداخلية والخارجية، بما يُعيد إليها شيئًا من هيبتها كقوة وازنة ومتّزنة على المسرح الدولي. إلا أن الأصح هنا يتمثل في أن الإسراف في التفاؤل بقدرة “رجل الصفقات” على تحقيق تطلعاته الشخصية، عن طريق تجاوز “الخط الأحمر” المتعلق بأمن إسرائيل ومصالحها السياسية والعسكرية والاستراتيجية، لا يبدو واقعيًا ومنطقيًا، سواء على المدى المنظور أم على المدى البعيد، نظرًا لأن آليات عمل “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة لن تسمح بحدوث مثل هذا “الخرق الخطير” بأي شكل من الأشكال.
لا شك في أن العوامل الخمسة، الآنفة الذكر، ألقت بظلالها الثقيلة على يوميات بنيامين نتنياهو المتخمة أصلًا بالمشاكل الداخلية والخارجية، ولكن النصف الملآن من كأس الواقع الحالي يتجسد في أن الرجل الذي ما زال يخوض واحدة من أكثر الحروب ضراوة، منذ تأسيس دولته في العام 1948 ولغاية يومنا الراهن، مع ما يُسمى بـ”الأذرع الإيرانية” في غزة (حماس) ولبنان (حزب الله) واليمن (الحوثيين) وغيرها، يدرك تمام الإدراك أن جهاز التحكّم الخاص لقياس ذبذبات الموجات السلمية عند العرب حيال الإسرائيليين، طولًا وعرضًا، لا يزال ممسوكًا بشدةٍ في يده، تمامًا مثلما يدرك أيضًا أن ما يتردد عن أن اعتزام الرئيس ترامب الحصول على جائزة نوبل للسلام هو الذي تحكّم بسلوكياته الأخيرة، على حساب نتنياهو، لا يزال، في الموازاة، بمثابة “ضربة حظ” من شأنها أن تخطىء أو أن تصيب.
ولعل السؤال الهام الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذه الأجواء الملبدة يتركز على معرفة ما إذا كان ترامب قد قرر حقًا انتهاج سياسة “اللعب بالنار” ومواصلتها مع نتنياهو أم لا؟
في انتظار ظهور الإجابة النهائية سيبقى باب الاحتمالات على الساحة الشرق أوسطية، حتى إشعار آخر، مفتوحًا على مصراعيه.
- كاتب لبناني