أقلام مختارة

«حياة الموظّف» لم تعد تُغري جيل Z!

في المكاتب الزجاجية التي تلمع تحت ضوء النيّون، يُقال إن جيل Z كسول، هش، وغير مهني. لكن خلف هذه الأحكام السريعة، تختبئ قصة جيل وُلد وسط الخراب، ويُطالَب بالنهوض من دون أرض يقف عليها.

في السنوات الأخيرة، شهد سوق العمل ارتفاعاً ملحوظاً في حالات طرد الشباب من وظائفهم، سواء في الدول الغربية أو في لبنان ودول المنطقة. أظهرت تقارير واستطلاعات حديثة أن خريجي الجامعات الجدد يواجهون تحديات حقيقية في الحفاظ على وظائفهم، إذ تُسرّح نسبة كبيرة منهم في أشهر قليلة من التوظيف. الفئة المستهدفة هنا هم من يُعرفون بجيل Z (مواليد 1997–2012)، ويُفترض أنهم أكثر الأجيال اندماجاً بالتكنولوجيا وأقربها إلى فهم أدوات العصر الرقمي. مع ذلك، يواجهون صعوبات حقيقية في التكيف مع متطلبات سوق العمل، ما يطرح سؤالاً ضرورياً: هل تكمن المشكلة فيهم أم في البيئة التي يدخلونها؟

جيل يُحاكم قبل أن يبدأ

وفقاً لتقرير صادر عن منصة Intelligent.com، فإن ستّاً من أصل عشر شركات سرّحت موظفين من جيل Z خلال سنة توظيفهم نفسها، فيما أعرب ربع الشركات عن عدم رضاه عن أداء خريجي الجامعات الجدد بشكل عام. وتشير الأسباب إلى «قلة الحافز»، و«سوء التواصل»، و«الافتقار إلى المهارات العملية»، و«عدم الجاهزية المهنية». وأفاد التقرير أنّ ستّاً من كل عشرة أصحاب عمل سرّحوا موظفين من جيل Z بعد توظيفهم مباشرة، فيما قال واحد من كل سبعة إنه يتجنّب توظيفهم من الأساس. هذه الملاحظات تكررت في تقارير أخرى، ما يوحي بأنها ليست حالات فردية. لكن هل هذه فعلاً مشكلة جيل Z؟ أم أنها مرآة لمشكلة أعمق تتعلق بطريقة إعداد هؤلاء الشبان للعمل وبثقافة الشركات التي توظفهم؟

تكرار اتهامات قديمة

الانتقادات الموجهة إلى جيل الشباب تبدو أحياناً كأنها إعادة تدوير لمقولات قديمة دائماً ما وُجهت إلى كل جيل جديد يدخل سوق العمل. في العقود السابقة، سُمع الكلام نفسه عن «كسل جيل الألفية» (مواليد 1981–1996)، وقبله «تهوّر جيل إكس» (مواليد 1965–1980)، كأن كل جيل محكوم بتهمة العجز في بداياته.

لذلك، من الضروري التوقف عند بعض النقاط الجوهرية التي تكشف أن هذه الأزمة ثنائية الاتجاه.

أولاً، يشير مستشارون وخبراء في شؤون العمل، تناولوا الموضوع في عدد من الصحف الغربية، إلى أن البيئة الأكاديمية الحالية تميل إلى التركيز على المعرفة النظرية على حساب المهارات العملية. الجامعات لا تُعدّ الطلاب للتعامل مع المجهول، أو مع العمل ضمن فرق، أو مع ديناميكيات سوق يتطلب مرونةً ومهارات تواصل متقدمة. كما إن التعليم لا يعلّمهم كيف يديرون وقتهم، أو كيف يتصرفون تحت الضغط، أو كيف يتلقّون النقد البنّاء. وهذه كلها عوامل حاسمة في أي مكان عمل.

ثانياً، تسير بعض الشركات في الاتجاه المعاكس لما يجب أن تفعله. بدلاً من احتضان المواهب الشابة، تتسرّع في إطلاق الأحكام وتكتفي بتكرار الشكاوى القديمة نفسها. في الوقت الذي تحتاج فيه هذه الشركات إلى كوادر شابة تواكب التحولات الرقمية، نجدها تُحجم عن الاستثمار في تدريب هؤلاء الخريجين وتأهيلهم.

كأنّ التوقّع هو أن يدخل الشباب إلى الشركة، يعرفون كل شيء، ويتصرفون كما لو كانوا يملكون خبرة عشر سنوات. من ناحية أخرى، لا يمكن إعفاء الشباب أنفسهم من المسؤولية.

هناك تفاوت واضح في مستوى النضج المهني، وبعض السلوكيات تدلّ على غياب الحس بالمسؤولية لدى البعض. كذلك، يدفع السعي وراء «النجاحات السريعة» بعضهم إلى تجاهل التفاصيل اليومية الصغيرة التي تبني الثقة مع الزملاء والمديرين.

جيل يعيش في اقتصاد لا يريده أن يعيش

ثمة بُعد آخر لا يمكن تجاهله عند تحليل تصرّفات جيل Z، وهو البُعد الطبقي والاقتصادي الذي غالباً ما يُستبعد من النقاش العام لمصلحة خطاب «الكسل الفردي» و«سوء الأخلاق المهنية».

الحقيقة أن هذا الجيل نشأ في ظلّ أزمات متراكمة: أزمات اقتصادية خانقة، وتدهور في الأمن الوظيفي، وارتفاع هائل في كلفة المعيشة والتعليم، وانهيار في ثقة الأفراد بالمؤسسات السياسية والاقتصادية على حد سواء.

هم لا يرون أمامهم «سلّماً وظيفياً» يمكن صعوده. يرون سوقاً يطلب منهم التنازل عن وقتهم وصحتهم النفسية مقابل أجور بالكاد تكفي للعيش.

هذه التجربة ولّدت شعوراً عاماً باللاجدوى واليأس. في نظر كثيرين منهم، لا يشكّل الالتزام بـ«ثقافة الشركة» أو «إثبات الذات» هدفاً مقنعاً، بل يبدو آلية لإعادة إنتاج الاستغلال ضمن شروط متوحشة تتنكّر بلغة الحداثة والتنمية. لذلك، حين يتّهمهم المديرون بـ«قلة الحافز»، قد يكون الأجدى أن يُسأل: أيّ حافز يمكن أن يبقى لشاب يرى أن النظام مصمَّم ليستنزفه لا ليراه؟

جيل Z لا يعاني من نقص في الذكاء أو الكفاءة. هو يعاني من نظام اقتصادي يُحمّله مسؤولية أزمات لم يصنعها، ويطالبه بالتأقلم مع واقع لا يملك فيه أدوات التأثير.

يعيش هذا الجيل بين مؤسسات تعليمية منفصلة عن حاجاته، وسوق عمل يراكم الأرباح على حساب استقراره النفسي والمعيشي. في هذا المشهد، تتحوّل الطاقات الشابة إلى وقود لدورة إنتاج لا تتيح لهم مستقبلاً واضحاً ولا كرامة مهنية.

السؤال لم يعد «لماذا يُطرد هؤلاء الشباب؟». السؤال الحقيقي هو: كيف نعيد بناء شروط العمل والحياة بما يضمن الكرامة والعدالة لجيل يشعر أنه وُلد في لحظة إفلاس جماعي؟

عن صحيفة الأخبار اللبنانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى