منذ أن تم اختراع السينما وانتشارها مطلع القرن العشرين، رافقت الكاميرا الحروب ووثقت العديد منها، وأنتجت لاحقا أفلاما درامية عديدة تستلهم قصصا من كل حرب على حدة، لكنها في النهاية تبدو جميعها متشابهة في فجائعها العامة.
بدورها، بدأت الحرب السورية التي لم تنته بعد، تلهم كتاب هوليوود لخوض غمارها فنيا وتسليط الضوء على واحدة من قصصها المؤثرة التي لا تعد ولا تحصى، حيث نشر موقع قاعدة بيانات الفيلم على الإنترنيت “IMDB” مؤخرا، الفيديو الترويجي الرسمي لفيلم “حرب خاصة” (A Private War)، والذي سيطلق في صالات العرض السينمائي في السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2018.
“حرب خاصة” فيلم درامي من إخراج Mathew Heineman وبطولة الممثلة البريطانية Rosamund Pike، تجسد فيه روزاموند شخصية المراسلة الحربية “ماري كولفين” ذائعة الصيت، وهي صحافية أميركية عملت لحساب صحيفة “صنداي تايمز” البريطانية على مدى عقدين وتنقلت بين حروب ضارية كثيرة من بينها العراق وسيريلانكا، وتعتبر واحدة من أشجع المراسلات الحربيات في العالم، إلى أن انتهى بها المطاف في منطقة “بابا عمرو” في مدينة حمص السورية التي كانت بحوزة المعارضة المسلحة السورية آنذاك، بعد أن تسللت إلى البلاد بطرق غير شرعية مع صحافيين غربيين آخرين، وقتلت إثر غارة جوية يوم 22 شباط/فبراير 2012 مع زميلها المصور الفرنسي “ريمي أوشليك”.
في الفيديو الترويجي، تظهر ماري بعدة لقطات في العراق وكيف فقدت عينها في حرب سيريلانكا، وتظهر في ليبيا مع الزعيم الليبي السابق معمر القذافي الذي جسد دوره النجم العراقي العالمي “رعد الراوي” بأداء ملفت، كما تظهر بلقطات عدة في مدينة حمص المدمرة من بينها الأنفاق التي كانت تستخدم للتسلل والاختباء من القصف.
يقدم الترويج بطلته على أنها سافرت إلى أكثر المناطق المشتعلة في العالم مخاطرة بحياتها من أجل الحقيقة. فهل حقا يستطيع المراسل الحربي أو الصحفي أن يحيط بالحقيقة الشاملة خلال تغطيته لحرب ما؟ أم أنه يحيط بجزء من الحقيقة من خلال اختيار موقعه مع أحد طرفي الصراع؟ والذي قد ينقلب عليه أحيانا ويصير رقيبا على تحركاته واتصالاته وتقاريره، وبالتالي يتحول المراسل بنظر هذا الطرف إلى خصم، وقد يستهدف بنيران صديقة قد لا تكون بريئة في بعض الأحيان.
أسئلة تطرحها السينما من حين إلى آخر في الأفلام التي تتناول مواضيع تتعلق بدور مهنة الصحافة في الحروب ورسالتها، وبحثها عن الحقيقة والدفاع عنها، أم مواربتها لها عبر تقديم الصراع برؤى تخدم مصلحة وسياسة وأجندة الجهات الاعلامية ومن خلفها مصالح الدول العليا التي تنتمي لها هذه الجهات الإعلامية. خصوصا عندما تنغمس هذه الدول في الصراع بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالتالي تسعى توجيه دفة الصراع إعلاميا بما يخدم هذه المصلحة العليا في النهاية.
وفي تفسير عام لاختيار اسم “حرب خاصة” عنوانا لهذا الفيلم، بأنه قد يكون محاولة إضافية تدور في فلك هذه الأسئلة من خلال الحرب الشخصية بين المراسل وذاته التي تحثه على المجازفة وتعريض حياته للخطر إيمانا بجوهر عمله النبيل.
مهنة المراسل الحربي واحدة من أخطر المهن في العالم. يقف على الجبهات الأمامية حاملا روحه على كفه، ويستهدف أحيانا من الجميع. وحين تنخرط أي امرأة في مهنة كهذه، لا شك أنها مخاطرة مضاعفة لسيدة شديدة الجرأة، تركت أطفالها وحياتها العائلية الهادئة من أجل الانغماس في البحث عن حقيقة قد تصل إلى طرف من أطراف خيوطها، وقد لا تصل أبدا.
“إيديت بوفييه” مراسلة صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، التي تسللت بدورها إلى مدينة حمص وأصيبت بجرح خطير في ساقها جراء الغارة ذاتها التي تسببت بمقتل ماري وزميلها، أصدرت بعد عامين على الحادثة كتابا بعنوان “غرفة تطل على الحرب” سجلت فيه ذاكرتها عن الأيام التسعة التي قضتها في حمص وتحدثت في أكثر من مقطع عن لقائها الأول بماري فتصفها: “إنها في كل مكان وزمان، في الأماكن التي لا يتمكن أحد من دخولها، تجد ماري وسيلة للتغلغل”. وفي مقطع آخر تتحدث عن اعتداد ماري بنفسها فتقول: “ستكون آخر من يغادر، أيا يكن الثمن”.
لكن ماري كانت أول من غادر المكان والزمان إلى الأبد، تنعيها “إيديت” حال اكتشافها لمقتلها بقولها: “وهذه المراسلة الأسطورية التي كان الناس يعتقدون أنها لا تهزم ماتت… هنا، على بعد بضعة أمتار فقط”.
إنها الحروب التي تهزم الجميع، الكل فيها خاسر في المطلق، والحقيقة الوحيدة التي لا لبس فيها هي أن آلاف القتلى الأبرياء الذين أزهقت الحروب أرواحهم، قتلوا دون أن يعرفوا لماذا يقتلون، وأي طرف من أطراف الصراع سلبهم حيواتهم. حقيقة أكدها العام 2017 الذي كان الأقل دموية منذ عقد ونصف في عدد قتلى الصحافيين المحترفين حول العالم بحسب منظمة “مراسلون بلا حدود”، والسبب أن الصحافيين باتوا يعزفون عن العمل في المناطق الأكثر خطورة وعبثية.
“الحرة”