فارس خشّان
سال كثير من الحبر ضد اغتصاب الأطفال على يد رجال دين كاثوليك حظيوا بحماية رؤسائهم. تدخّل الفاتيكان وأعلن البابا فرنسيس ما يشبه “الثورة” ضد هذه الممارسات الجرمية، مسقطا الحصانة عن كل من يتورط بجريمة مماثلة، واعدا بإجراءات كنسية تكرّس هذا الاتجاه.
لكنّ هذه الإجراءات، على أهميتها، ليست كافية، كما قالت الجمعيات التي تُعنى بالضحايا مدعومة من وسائل الإعلام في الدول المسمّاة كاثوليكية، لأن البابا، من جهة أولى، نسب هذه الجرائم إلى “الشيطان”، الأمر الذي يفيد بأن المجرم ليس مسؤولا عن أعماله بل مجرد آلة يستعملها الشيطان، وفق نظريات القرون الوسطى، ولأنّه، من جهة ثانية، أراد أن يُبقي كل ما يتعلّق بمحاكمات المطارنة الكنسية، ممهورا بطابع السرية الشاملة.
وذهب القضاء الأسترالي، في هذا الوقت بالذات، إلى حيث لم يكن يريد البابا فرنسيس الذهاب، فأسقط طابع السرية عن ملف وزير الاقتصاد في دولة الفاتيكان الكاردينال جورج بيل الذي أدين بقضايا اغتصاب قاصرين، في حرم كاتدرائية “سان باتريك” في ملبورن.
وبناء عليه، فإن معركة مساءلة رجال الدين الكاثوليك تبقى مفتوحة حتى لا يعود ثمة ما يحول دون الإدانة الكاملة بحق المرتكبين منهم، بحيث يصبحوا مثلهم مثل أي إنسان آخر، في المجتمع.
ولكن الحبر الذي سال والنقاشات التي ملأت الأثير والأفلام التي سلطت الضوء على هذه الفضائح بكل ما أنتجته من مآس في حياة الضحايا، بقيت بعيدة من الحرف العربي.
المساهمة اللبنانية الأهم في هذا الجهد الإصلاحي تمثّلت في ممارسة الرقابة على المطبوعات الأجنبية التي توزع في المكتبات، إذ إن مقص الرقيب، ونزولا بطبيعة الحال عند رغبة السلطات الكنسية المحلية، حذف رسمين كاريكاتوريين من صحيفة “لوكانار أنشينيه” الفرنسية لأنّهما تناولا فضيحة جرائم اغتصاب الأطفال على يد رجال الدين الكاثوليك.
ويبدو واضحا أن اللغة العربية لا تكره الفضائح فحسب، بل هي أيضا، تنبذ الاعتراف بالذنب وتأنف من الرجوع عن الخطأ وتنتفض ضد المساواة بين الناس.
واللغة، كما يظهر في العالم العربي، تشبه الأنظمة التي ترعاها، فالملوك في العالم كله أصبحوا رموزا لأممهم التي يحكمها المنتخبون من الشعب، لكن عند العرب، حتى الرؤساء، هم ملوك بصلاحيات تكاد تتفوّق على تلك التي كان يحتكرها أولئك الذين بسطوا نفوذهم في القرون الوسطى، ويكفي لفهم ذلك أن يتأمّل المرء بالصورة الممجدة التي جمعت، قبل أيّام، مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي ببشار الأسد، رئيس أبشع نظام إجرامي، في العالم المعاصر.
وما يقوم به الفاتيكان لناحية تطهير الكنيسة من “الدنس المكلّس”، بمعنى أوضح، من الجريمة المتدثرة بالثوب الكهنوتي، لا يصلح لمناقشته بالحرف العربي الذي يصر الممسكون به على أن يُقدسوا غير المقدس، فكيف تراهم سيقبلون بـ”أنسنة” ما هو أصلا مقدّس؟
باللغة العربية لا يمكن لشدياق أو شمّاس أو كاهن أو مطران أو كاردينال أن يرتكب جرما من تلك المدوّنة تحت باب” الشرف”. وحده من يكتب عن ذلك هو المجرم المطلوب حذف نتاجه ومنعه محاكمته واضطهاده معنويا، لأنّه تجرأ على رمز ديني ومسّ بكرامة المتدينين وزعزع المكانة العليا للطائفة.
رجل الدين، في عالم “لغة الضاد” له مكانة محفوظة في كل ميادين المجتمع. له قراره في السياسة اليومية، وفي الخصومات بين المتصارعين على السلطة، وفي مكافحة الفساد، وفي التعليم، وفي التربية، وفي الزواج، وفي الطلاق، وفي الموت، وفي الولادة، وفي الإجرام، وفي الخطيئة، وفي التكفير، وفي الغفران.
كيف يعقل لرجل على هذا المستوى أن يسقط من أجل طفل بريء أو شخص ضعيف أو امرأة مسكينة، وقد حلّلهم لنفسه؟ جميع هؤلاء الذي أسقطهم بيده، لا قيمة لهم، لا رأي لهم، ولا مكانة لهم. لا يهم إن تاهوا في الحياة، وإن أصيبوا بعاهات نفسية، وإن لجأوا إلى الإدمان لينسوا ما رافقهم من انكسار أمام من استقوى عليهم باسم الله، منذ كانوا صغارا.
ما قام به الفاتيكان يبقى، وفق الجمعيات التي تعنى بالضحايا، قاصرا عن الاستجابة لما يجب أن يكون، ولكن في بلادنا، صوت هذه الجمعيات مثله مثل صوت الشيطان الذي يريد تدمير الدين من خلال “أبلسة” رجاله الذين اختارهم الله لتمثيله على الأرض.
رجال الدين في بلادنا هم من يضعون المعايير ومن يُشرّعون ومن يحلّلون ويحرمون. هم من يفرضون معايير النقاش العام، فإن رفضوا، مثلا، الزواج المدني، ولو اختياريا، ذُلّ من تجرّأ على طرحه وهُمّش، وأوصل مسيرته في الشأن العام إلى نهاياتها، وإن قالوا إن من شكا اعتداء عليه منهم ليس سوى كاذب ومفتر وضال، كان كذلك.
قبل انفجار فضيحة “اغتصاب القاصرين” في الكنيسة، أو بالتزامن معها، فجّرت نساء العالم فضيحة “التحرش الجنسي” بهنّ على يد “أرباب العمل” من منتجين ومخرجين ومدراء عامين وقادة عسكريين ووزراء وغيرهم.
فقط باللغة العربية، ساد صمت عميم، حتى يخال المرء أن شيئا من ذلك لا يحصل في بلادنا.
ولأنّ “لغة الضاد” تبدو، حتى الساعة، مطواعة للمقدّس وللقوي، فإن جميع من يتطلع إلى السلطة والنفوذ والمال، يسلك إما تحت راية الله وإما تحت راية القوة. وبين هؤلاء من مزج الرايتين، فحمل المقدّس بيد والبندقية بيد أخرى.
رجال الدين الكاثوليك، شاء الفاتيكان أن يكونوا في واجهة استخلاص النتائج، لكنّهم، يبقون، مجرد مثال للمشكلة التي نعرف أنّها لا تنحصر بهم.
وعبثا ترنو شعوبنا إلى الالتحاق بركب التطور إن بقيت، إرادة ولغة، تحت رحمة تقديس… المدنّس.
الحرة