حسين عبد الحسين
دأبت الدعاية الروسية، على مدى الأسبوع الماضي، على تقديم قصتين متناقضتين؛ في الأولى، اتهمت دعاية روسيا الولايات المتحدة بالسعي لقلب نظام الرئيس الفنزويلي المطعون بشرعيته نيكولاس مادورو من أجل “الحصول على النفط الفنزويلي”. في الثانية، تباهت الدعاية الروسية بتوقيع شركة روسنفت، التي تملكها موسكو، عقدا يمتد 20 عاما، لتطوير منشآت تخزين نفط في ميناء طرابلس، شمالي لبنان، وبقيام وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف بزيارة إلى العراق للبحث في إمكانية حصول روسنفت على عقود نفطية عراقية.
بكلام آخر، روسيا تتهم أميركا بالإمبريالية وبالتدخل بشؤون الدول طمعا في الاستيلاء على نفطها، فيما روسيا تقوم في الوقت نفسه بالتدخل بشؤون فنزويلا بدعمها مادورو، ومحاولتها السيطرة على عملية إنتاج النفط في لبنان والعراق.
على أن الدعاية الروسية ليست كاذبة فحسب، بل هي فاشلة، وتظهر أن حكام روسيا ما يزالون عالقين في ذهنية السباق الإمبراطوري للسيطرة على منابع النفط، قبل حوالي نصف قرن.
بادئ ذي بدء، لا تحتاج أميركا إلى قلب نظام مادورو للاستيلاء على نفط فنزويلا، الذي يشكل ستة في المئة من إجمالي واردات الولايات المتحدة النفطية سنويا، فيما تشكل الأموال الأميركية 40 في المئة من عائدات نظام مادورو، أي أنه على عكس الدعاية الروسية، فإن مادورو يبيع النفط لأميركا، ولا حاجة للتخلص منه للحصول على هذا النفط، بل إن وقوف واشنطن ضد حاكم فنزويلا يمكنه أن يؤدي إلى تعثر تدفق النفط الفنزويلي إلى الشواطئ الأميركية، وتاليا، ارتفاع سعر الطاقة في الداخل الأميركي، ما ينعكس سلبا على الحكومة الأميركية أمام مواطنيها.
ثم أن علاقة النفط بالاقتصاد العالمي تغيرت عمّا كانت عليه قبل حوالي نصف قرن. مثلا، تظهر وثائق حكومية أميركية تم رفع السرية عنها أنه إبان اندلاع الثورة الإيرانية في العام 1979، كانت واشنطن تخشى أن يستغل الاتحاد السوفياتي الفوضى الإيرانية، فيجتاح المناطق وصولا إلى الخليج، حيث منابع النفط التي تعتمد عليها أميركا. لذا، أعدت ادارة الرئيس السابق جيمي كارتر سياسة فوضت بموجبها القوات المسلحة باستخدام قنابل نووية تكتيكية شمال إيران لمنع أي تقدم روسي.
اليوم، تحول النفط إلى سلعة متداولة في السوق العالمية، مع حاجة ماسة لدى الحكومات المنتجة لعائداتها النفطية، ما يدفعها جميعها إلى السباق في الإنتاج والتصدير.
وإلى الدول المصدرة، تعتمد الصين ـ أكبر مستورد للنفط في العالم بسبب شح إنتاجها المحلي مقارنة بضخامة الإنتاج الأميركي ـ على استقرار السوق النفطية العالمية واستمرار تدفق الإنتاج إليها.
وهذا يعني، أن كل دول العالم، المصدرة والمستوردة للنفط، تسعى لرؤية السوق عالمية مستقرة، ولا حاجة لتدخلات عسكرية أميركية، إن في إيران أو فنزويلا، لاستيلاء على طاقة يمكن شراءها بسهولة في السوق العالمية. هذا عن الحكومات.
في العالم أيضا شركات إنتاج نفط. هذه الشركات تملكها حكوماتها في دول مثل روسيا والصين والسعودية، فيما هي شركات خاصة في أميركا وأوروبا. أما الدول النفطية التي لا تدير حكوماتها شركات إنتاج طاقة، مثل العراق وربما لبنان مستقبلا، فهي تتعاقد مع الشركات العالمية، الحكومية أو الخاصة، لإنتاج وتصدير نفطها.
في العراق، منتصف العقد الماضي، فازت شركة إكسون الأميركية بعقد لاستخراج النفط في حقل مجنون العملاق. لكن إكسون، كنظيراتها من الشركات، اشتكت أن الحكومة العراقية تطلب نسبا عالية جدا من العائدات النفطية، ما يقلص هامش الأرباح للشركات. ومع اهتزاز الأمن في العراق، وأحيانا انعدامه، ترتفع تكلفة عملية الإنتاج وحمايتها، ما دفع شركة إكسون إلى التخلي عن عقد إنتاج النفط في حقل مجنون العراقي. وبعد فترة، تعاقدت الشركة الأميركية مع حكومة كردستان العراق، بسبب استباب الأمن وتدني النسبة التي طلبها الكرد مقارنة ببغداد، وهو ما أثار ثائرة الحكومة الفدرالية العراقية.
وشركة إكسون فازت بعقود إنتاج طاقة في روسيا نفسها، ولكنها عقود جمدتها عقوبات واشنطن على موسكو بسبب احتلال الأخيرة شبة جزيرة القرم الأوكرانية، وسعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تصفية معارضيه حول العالم.
أما السؤال، فهو لماذا تمنح روسيا إكسون عقودا نفطية، بدلا من توكيل شركتها روسنفت؟ تكمن الإجابة في التقدم التكنولوجي لشركات النفط الأميركية والأوروبية، التي يمكنها استخراج طاقة بوسائل أكثر فعالية وأقل تكلفة، حتى في مناطق يتعذر فيها على شركات متخلفة تقنيا، مثل روسنفت، إنتاج الطاقة.
وللسبب نفسه، منحت إيران شركة توتال الفرنسية عقدا لتطوير الإنتاج الإيراني في حقل بارس، إذ أن طهران ـ التي تتباهي بتفوقها التكنولوجي والعسكري والفضائي ـ غير قادرة على تحديث قطاع الطاقة، الذي تعتمد عليه في إجمالي عائداتها، ولا هي قادرة على تطوير حقولها أو توسيع عملية الإنتاج. لكن توتال انسحبت من إيران بعد انسحاب أميركا من الاتفاقية النووية. وحاولت شركة سينوبك الحكومية الصينية القيام بدور توتال، إلا أن تقنية سينوبك متخلفة عن الغرب كذلك.
هكذا، يبدو جليا أن لا أميركا تسعى للاستيلاء على نفط فنزويلا أو العراق أو لبنان، ولا روسيا قادرة على تطوير إنتاجها للطاقة، ولا إنتاج هذه الدول. والتخلف التقني يقلص من الربح، ما يعني أن روسيا، مثل فنزويلا وإيران والعراق ولبنان، هي التي تستجدي أميركا وأوروبا للاستثمار في تطوير قطاعات الطاقة لديها، فيما أميركا وأوروبا ليستا بحاجة لغزو دول غنية بالطاقة لاستغلال موارد هذه الدول، إذ أن الطاقة صارت متوفرة في السوق العالمية، وما لم تعد العقود النفطية على الشركات الأميركية والأوروبية الخاصة بالأرباح المطلوبة، فهي ستبقى بعيدة عن أي من حقول الطاقة حول العالم.
الحرة