أقلام يورابيا

العربدة الإسرائيلية من غزة إلى السويداء… اليوم دمشق وغدًا مكة والقاهرة

أحمد المصري

حين قصفت إسرائيل غزة بلا هوادة في حربها المفتوحة منذ 7 أكتوبر 2023، لم تكن المسألة مجرد رد على عملية “طوفان الأقصى”، بل كانت بداية استراتيجية عربدة شاملة أعادت فيها تل أبيب تعريف موازين القوة وحدود التدخلات في المنطقة.
غزة لم تكن المعركة، بل البوابة. البوابة التي كُسرت بها أقفال الردع العربي، وهُدمت فيها آخر جدران الحماية السيادية، وأُعيد عبرها رسم خرائط النفوذ من جديد.
واليوم، تكمل إسرائيل خطّ مشروعها في السويداء، لا لحماية الدروز كما تزعم، بل لتحقيق جملة أهداف استراتيجية تتجاوز الجغرافيا السورية، وتطعن صميم الأمن العربي.
ما حدث في غزة خلال الشهور الماضية لم يكن مجرد حرب. بل إبادة جماعية على مرأى العالم، شملت أكثر من 197 ألف شهيد وجريح، وتجويع ونزوح لملايين المدنيين، وتدمير ممنهج للبنية التحتية، وشلل تام للمؤسسات الصحية والتعليمية والإنسانية.
لم تكن إسرائيل تستعرض قوتها فقط، بل كانت تختبر رد الفعل العربي والدولي. ولمّا لم تجد ردًّا، قررت أن المرحلة التالية ممكنة.
فمن غزة انتقلت إلى بيروت باغتيالات، وإلى صنعاء بغارات، ثم حرب الـ12 يوما في ايران وها هي اليوم تعيد رسم المشهد السوري من بوابة السويداء وقصف العاصمة العربية السورية دمشق ومبنى الأركان والقصر الرئاسي.
في السويداء، تسللت إسرائيل تحت لافتة “حماية الدروز”، مستخدمةً مشايخ محسوبين عليها مثل حكمت الهجري، لتوجيه رسائل إلى نتنياهو وترامب في مشهد يختلط فيه الانتماء الديني بالعمالة السياسية.

لكن التدخل الإسرائيلي في الجنوب السوري لم يعد مجرد غارة أمنية، بل أصبح أداة استراتيجية متعددة الأوجه.
إسرائيل تدعم مشهد “نحن نحمي طائفتكم هنا وهناك”، لتعزيز شعور الولاء داخل الطائفة الدرزية في فلسطين، خصوصًا في ظل أزمة التجنيد داخل الجيش وتراجع الحماسة للقتال بين المستوطنين والمتدينين اليهود.
السويداء كانت من المحافظات التي احتفظت بتوازن نسبي بعد سقوط نظام الأسد أواخر 2024، ولكن إسرائيل لا تقبل بسوريا موحدة أو مستقرة، فتعمل على تفكيك التفاهمات بين الدروز والدولة الجديدة، ومنع عودة السلطة المركزية.
تتذرع إسرائيل بـ”حماية الأقليات” لفرض مسار تطبيع غير متكافئ، وهي تدرك أن السلطة الانتقالية في دمشق أضعف من أن ترفض الضغوط، لكنها لا تزال تمانع الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.
وعبر استثمار الصراع الدرزي-البدوي، تُسهم إسرائيل في إشعال توترات طائفية تعيد تشكيل الخارطة السكانية بما يناسب مصالحها، خصوصًا مع صعود قوى بات لها نفوذ في مناطق كانت تحت هيمنة النظام السابق.
الحضور العربي في الملف السوري بات هشًا، وإسرائيل تسعى لتقويضه بالكامل، وملء الفراغ من خلال تدخلها العسكري والسياسي، بدعم أمريكي وصمت عربي، وتواطؤ تركي موارب.
تدخل إسرائيل في السويداء يمكن أن يتحول إلى سابقة تُستخدم لاحقًا لتبرير تحركات مشابهة في لبنان (بحجة حماية الدروز أو المسيحيين)، أو العراق (لحماية الإيزيديين والكرد أو اليهود العراقيين القدماء)، أو حتى مصر (بذريعة حماية النوبيين أو الأقباط).
تؤكد مصادر إسرائيلية أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب – رغم بعض الانزعاج التكتيكي – تتفهم دوافع تل أبيب، ولا تمانع في استخدام الضربات كأداة ضغط على دمشق.
وقد استنتجت إسرائيل من جلسات التواصل الأخيرة مع مسؤولين سوريين أن دمشق لا تنوي التخلي عن الجولان أو التطبيع، وهو ما يفسّر التصعيد العسكري كأداة ضغط بديلة.
اليوم السويداء، وغدًا مدن أخرى، فمن يبرر التدخل في السويداء بحماية “الأقليات الدينية”، لن يجد حرجًا في الزعم لاحقًا أن “مواقع إسلامية” في مكة والمدينة أصبحت خطرًا على الأمن الإسرائيلي، أو أن “جماعات إسلامية متطرفة” تهدد حدود النقب من داخل سيناء.
ما من دولة عربية يمكنها أن تدّعي البراءة من هذا الصمت، فالدول التي هرولت نحو التطبيع لم تحصد لا حماية، ولا استقرارًا، ولا حتى استثمارات. بل زاد الابتزاز السياسي، وتوسعت رقعة التدخلات، وانهارت القضايا المركزية أمام أعين الجميع.

فما معنى أن تصمت العواصم عن تدمير غزة؟ ما معنى أن تمر الغارات على دمشق والسويداء دون بيان إدانة حتى؟ وما معنى أن يتسوّل شيخ عقل الحماية من تل أبيب ولا يُرد عليه صوت عربي واحد؟

إن العربدة الإسرائيلية ليست مجرد سياسة طارئة، بل نموذج تدخل متعدد الأذرع، يتسلل باسم الطائفة تارة، وبذريعة الأمن تارة أخرى، وبذريعة التطبيع لاحقًا.

فالمشروع الصهيوني، كما أثبتت السنوات الأخيرة، لا حدود له. لا أخلاقيًا، ولا جغرافيًا. والتطبيع العربي لم يحمِ عاصمة واحدة من الاستهداف، بل ربما شجّع على المزيد.

وإذا لم يُكسر هذا النموذج في غزة أو السويداء، فسيتمدد بالضرورة إلى بيروت وبغداد والقاهرة، وربما إلى مكة المكرمة ذاتها، حين تُختلق ذريعة “الخطر الإسلامي المتطرف” في محيط الحرم، على غرار ما تفعل إسرائيل اليوم في جنوب سوريا.

أمام هذه المشاهد، ليس أمام العواصم العربية إلا خيار واحد: إعادة تعريف الأمن القومي العربي كمصلحة جماعية، لا كحدود قطرية. فحريق غزة ودمشق سيحرق الجميع، والسكوت اليوم سيُدفع ثمنه غدًا في مكة والرباط والخرطوم.

يجب أن ندرك أن العربدة الإسرائيلية ليست رد فعل، بل فعل أصيل، مبرمج، ومتدرّج، يسير نحو هدف واضح: هدم الدولة الوطنية، وكسر المجتمعات، وتحويل كل صوت إلى طائفة، وكل طائفة إلى وكيل.

سيكتب التاريخ أن هناك يومًا دُمّرت فيه دمشق بصمت العرب، وقُسمت سوريا بذريعة “الحماية”، وعبثت إسرائيل بجغرافيا المنطقة، تحت سمع وبصر من كان يجب أن يكون درعها. فإن لم نوقف هذا التمدد الآن، فستكون مكة والقاهرة في الصفحة القادمة من هذا المخطط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى