أقلام مختارة

العقوبات والمسألة السورية: هل نضجت “طبخة” أمريكية؟

صبحي حديدي

أغلب الظنّ، ولكن أيضاً بدلالة لغة الجسد ومجاراة الحشد المغتبط، أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فوجئ بموجة تصفيق حارّ وتهليل وقوفاً سُجّلت في أعقاب إعلانه رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، والتي كانت وصلة التصفيق الأطول على امتداد فقرات خطاب ماراثوني ألقاه خلال منتدى الاستثمار في الرياض، واحتوى على فقرات عديدة سياسية واقتصادية وأمنية تخصّ المنطقة والولايات المتحدة والعالم. بعض مصدر المفاجأة قد يكون أتى من ملمح الامتنان الصريح الذي عبّر عنه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على مرأى من عدسات العالم، غير أن تفصيل المشهد يقود أيضاً إلى مفاجأة تصاعدت تدريجياً، ودرامياً في الواقع، فبلغت درجة دفع ترامب إلى التصفيق بدوره، وهي إنما أتت من ردّ فعل الجمهور السعودي في القاعة الغاصة؛ وكأنّ الرئيس الأمريكي أعلن تقديم الهدية الأثمن إلى المملكة وليس إلى سوريا.
وليس الأمر أن ترامب لم يكن، في المقابل، على علم مسبق بإلحاح على رفع العقوبات من جانب بن سلمان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزعماء آخرين في المنطقة، وربما بعض الساسة الأوروبيين ممّن بادروا بالفعل إلى تخفيف جزئي أو ملموس للعقوبات. كذلك من المنطقي الافتراض بأنّ الودّ العالي، الفعلي أو البروتوكولي، بين الرئيس الأمريكي وولي العهد السعودي، والذي اقترن بصفقات استثمار يتردد أنها الأضخم على مسار التاريخ؛ كان، وحده، المحرّك المباشر لمسارعة ترامب إلى ثلاث خطوات، دراماتيكية أو تكاد: رفع العقوبات عن سوريا، وإعلان لقاء بين وزيري خارجية الولايات المتحدة وسوريا، واستقبال الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع صبيحة اليوم التالي.
غير مستبعد، استطراداً، أن تكون «طبخة» إدارة ترامب، بصدد اتخاذ استراتيجية ملموسة ومتكاملة تجاه سلطة الأمر الواقع في سوريا الجديدة، قد نضجت بما يكفي لتوّها؛ أو أنها لم تعد تحتمل المزيد من الإنضاج على نار هادئة، خاصة أمام سلسلة استحقاقات شرق ـ أوسطية كانت تنتظر ترامب، ليس في أوّل جولة خارجية كبرى له في رئاسته الثانية فقط، بل إلى السعودية وقطر والإمارات على وجه التحديد. فإذا صحّ التقدير هذا، فلعلّ ثقاة نصح الرئيس الأمريكي قد بلغوا معه سقف قرار نوعي ناظم للسياسة، أو السياسات، بأسرها تجاه ما بمكن توصيفه بـ«المسألة السورية»؛ مما استوجب كسر حيرة أقرب إلى العطالة طبعت التردد الأمريكي منذ انهيار نظام آل الأسد، وما الضير في ضرب أكثر من عصفور واحد: إرضاء بن سلمان وأردوغان وآخرين، واللحاق بمبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (ومن ورائه الاتحاد الأوروبي!) في استقبال الشرع، وترسيم أكثر من «نهج» جيو ـ سياسي لإدارة ترامب في المنطقة…
من الصعب في المقابل، أو هو غير واضح أو متوفر مرحلياً على الأقل، الجزم حول ما إذا كان الثقاة أنفسهم، أو ترامب ذاته، قد عمدوا إلى قراءة مظاهر الابتهاج العارمة التي عمّت قرى وبلدات ومدن سوريا بعد دقائق أعقبت إعلان رفع العقوبات، وأحسنوا تأويلها على أي وجه منطقي يأخذ بعين الاعتبار إرادات الشعوب ومشاعر الحشود ويتحسب لها، سلباً أم إيجاباً.

في عبارة أخرى، لعلّ صانع العقوبات، رؤساء أمريكا منذ أواخر السبعينيات وحتى انهيار نظام «الحركة التصحيحية»، ثمّ خصوصاً بعد الانتفاضة السورية سنة 2011؛ قد أدرك أنّ معادلة العقوبات استنفدت أغراضها المعلنة، الخاطئة أصلاً والزائفة في كثير من مستوياتها، وانقلبت اليوم إلى ضدها؛ بمعنى تأجيج السخط الشعبي السوري العارم ضدّ العقوبات، واليقين بأنها سوف تواصل تكبيل سوريا وشعبها، وتُقعد جهود التطوير والإصلاح وإعادة البناء.
وهذه سطور اتخذت موقفاً صريحاً مناهضاً للعقوبات من هذا الطراز، أينما فُرضت وبصرف النظر عن النظام الذي تستهدفه، وأياً كانت التسميات المضللة التي تعتمدها قوى متجبرة ومهيمنة وصاحبة سجلات سوداء ودامية ضدّ الشعوب؛ وذاك موقف شمل «قانون قيصر» ذاته، مع التثمين العالي للجهد الفريد والنبيل الذي بذله فريد المذهان في تهريب الوثائق إلى أكثر من منظمة حقوقية دولية ورأي عام عالمي متعاطف، قبل الكونغرس أو أية جهة حكومية أو بيروقراطية غربية. وفي جميع أنماطها ووسائل تطبيقها، هذه عقوبات يُعلن عنها تحت باب الضغط على الأنظمة وإضعاف بنيانها وتفكيك شبكات الولاء داخلها، وبالتالي خدمة تحرير الشعوب من الاستبداد؛ فتؤذي الشعوب ذاتها، أولاً وثانياً وعاشراً، أو حتى حصرياً، قبل إيذاء رؤوس الأنظمة ومجرمي الحرب ومؤسساتهم. التاريخ شاهد، ولم يسجل سقوط نظام استبداد واحد جراء العقوبات، وسجّل في المقابل أن حزمة العقوبات الأوروبية والأمريكية ظلت تتفادى عدداً من كبار عتاة الفساد والإفساد وتغذية النظام.
وابتهاج السوريين بقرار ترامب رفع العقوبات تنغّصه حقيقة موازية صعبة، إذا لم تكن عويصة ومعقدة، هي أنّ طراز العقوبات التي في وسع ترامب رفعها، وقد فعل لتوّه أو سوف يفعل؛ ليست، للأسف، مماثلة للعقوبات التي فرضها الكونغرس، وهو وحده المخوّل برفعها. على رأسها، بالطبع، «قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين»، الذي ينطوي على عناصر عديدة تختلف عن عقوبات فرضتها الحكومة الأمريكية على أنظمة مختلفة في المنطقة، أو حتى على روسيا بعد اجتياح أوكرانيا مثلاً. صحيح أن ترامب يملك نفوذاً واسعاً في صفوف أعضاء الكونغرس من الجمهوريين، إلا أنّ «قانون قيصر» مصمم في الواقع لعقاب إيران أسوة بالنظام السوري، أو حتى قبله؛ وبالتالي، وفي ضوء النفوذ الصهيوني والإسرائيلي الهائل لدى الجمهوريين أنفسهم، يمكن للقانون أن يبقى فترة أطول، حتى إذا كانت إيران قد خرجت من سوريا على نحو لا رجعة عنه في المدى المنظور.
بذلك فإنّ انتهاء إدارة ترامب من إنضاج «طبخة» سورية ما، لا يعني بالضرورة فصل ما تمّ طبخه سورياً عن طبخات إيرانية على نار هادئة أيضاً، لا تبدأ من الملفّ النووي ولا تنتهي عند لبنان واليمن والعراق. كذلك فإنّ قانون قيصر يتوخى الضغط على النظام عبر بوّابة الاقتصاد، بل هو اللافتة المشرعة في تبرير فرض العقوبات، وما دام اقتصاد النظام لم يكن في حاجة إلى تركيع كي يسقط أرضاً، فإنّ اقتصاد سوريا ما بعد الأسد هو الموروث الذي يكبّل البلد ويعيق سلطة الأمر الواقع، وبالتالي فهو سوط في يد غلاة الجمهوريين من أعضاء الكونغرس، وقد يماطلون طويلاً قبل التنازل عنه.
وقد يقع على عاتق السوريين المبتهجين برفع العقوبات، ولهم في هذا كل الحق، أن يستذكروا أيضاً أدوار بعض وكالات الأمم المتحدة التي قدّمت للنظام السوري نحو 30 مليار دولار، بعلم الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، تحت عنوان «المساعدات الإنسانية». وهنا أيضاً لم يكن السوري، الجائع أو المريض أو الشريد، هو المستفيد بسنت واحد من تلك المليارات، التي تمّت قرصنتها بأساليب تخجل منها المافيات، فقوّت شوكة أجهزة النظام الأمنية والعسكرية، وضًخّت في حسابات رؤوس النظام وفاسديه وصيارفته.
رفع العقوبات الأمريكية خطوة حاسمة، في البدء كما في المحصلة، لا تطمس في شيء سلسلة العراقيل والصعاب والتعقيدات التي تنتظر المضيّ بها أبعد؛ كما أنها لا تعفي سلطة الأمر الواقع من ملاقاة هذه النقلة النوعية بشراكة مواطنة فعلية ملموسة مع المجتمع والمؤسسات؛ تحت طائلة المسؤولية عن كل عطب في استشراف مستقبل واضح جلي؛ يطمح إليه السوريون، ولن يقبلوا عنه بديلاً.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

عن صحيفة القدس العربي اللندنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى