أقلام يورابيا

الجامعة العربية.. مكسب رمزي لمصر أم مؤسسة منتهية الصلاحية؟

أحمد المصري

في خضمّ الأحاديث المتزايدة عن احتمال نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى الرياض، بدعوى أن السعودية باتت “قائدة المرحلة” عربيًا، يُطرح سؤال جوهري لا يرتبط فقط بمكان المؤسسة، بل بجدواها كلها، هل ما زال للجامعة العربية دور يمكن الدفاع عنه؟

من حيث المبدأ، ومؤخرا وبعد قناعة راسخة اصبحت لا احبذ فكرة القومية العربية، ولا القومية عمومًا، حيث ثبت لي، تاريخيًا، أن محاولات صهر الشعوب في قالب واحد، مهما بدا نبيلًا، تؤول إلى صيغ من التعصّب أو الاقصاء، وربما الاستبداد.

تجارب “الوحدة العربية” المتكررة، من الوحدة المصرية السورية، مرورا بالوحدة اليمنية ومجلس التعاون العربيومجلس التعاون الخليجي إلى مشاريع المغرب الكبير، إلى سوق عربية مشتركة لم ترَ النور – باءت كلها بالفشل الذريع.

لم تكن المشكلة في “المؤامرات الخارجية”، كما يحلو لبعض القوميين ترديده، بل في التباين البنيوي العميق بين الأنظمة والشعوب: فكريًا، طائفيًا، عرقيًا، وماديًا.

ومع ذلك، فإن الدعوات إلى نقل الجامعة العربية من القاهرة، لا يجب أن تُواجَه من منظور قومي أو انفعالي فقط، بل من باب العقلانية السياسية والقراءة الرمزية للتاريخ والمستقبل.

الجامعة العربية، منذ تأسيسها عام 1945، لم تكن فقط مؤسسة دبلوماسية جامعة، بل ورقة رمزية في يد مصر. مصر ليست الدولة العربية الأكبر فقط، بل كانت ـ ولا تزال رغم محاولات تهميشها ـ صاحبة المبادرة في اللحظات المفصلية: من القضية الفلسطينية، إلى حرب أكتوبر، إلى الصلح مع إسرائيل، إلى دعم استقلال عدد من الدول العربية والإفريقية وصولا للازمة الليبية ودور الوساطة لوقف الحرب في غزة. وجود مقر الجامعة في القاهرة هو تجسيد لهذه القيادة التاريخية، حتى لو اختلفت أجيال اليوم حول دور مصر الراهن.

ببساطة، مقر الجامعة في مصر لا يعني أن الجامعة فعالة، لكنه يعني أن هناك ذاكرة عربية لم تُمحَ بعد. حتى في أكثر لحظات الضعف العربي، كانت القاهرة حاضرة كمركز للقرار أو كساحة للاحتجاج عليه.

السعودية اليوم تطرح نفسها كدولة قيادة في الإقليم، بحكم ثقلها الاقتصادي ونشاطها السياسي في ملفات مثل سوريا، لبنان، فلسطين، وحتى العلاقات مع إيران. لكنها، رغم ذلك، لا تمثل النموذج الذي يجب أن يُحتذى على مستوى الحوكمة أو الديمقراطية أو المشاركة الشعبية.

فالدولة التي لا تضم مؤسسات منتخبة، ولا تسمح بتداول السلطة أو بحرية التعبير السياسية، لا يمكن أن تُقنعنا بأنها تسعى لقيادة عربية جماعية. هناك فرق كبير بين المال والنفوذ، وبين القدرة على بناء تكتل سياسي يحترم تنوع الشعوب واختلافاتها.

قد تُقارن السعودية، من حيث الطموح، بدول مثل الإمارات أو قطر (مع الاحترام لهم جميعا ولمكانتهم)، لكنها تبقى في تناقض واضح مع قيم التعددية والانفتاح السياسي التي يجب أن تسود في أي مؤسسة جامعة.

في المقابل، دول مثل الكويت، رغم صغر حجمها، سبقت الجميع في التجربة البرلمانية والمساءلة السياسية ولم تطالب بنقل مقر جامعة الدول لها. إذًا، لماذا لا تكون الكويت مقرًا للجامعة إن كنا نتحدث عن “بيئة سياسية ناضجة”؟

صحيح أن الواقع العربي الراهن مهترئ تمامًا، حروب، تدخلات إقليمية، انقسامات سياسية حادة، ونُخب متهالكة ومنهكة بين الشعارات الفارغة والارتهان للخارج. وفي هذا السياق، قد يبدو الدفاع عن بقاء مقر الجامعة العربية في القاهرة دفاعًا عن كيان ميت. لكن، حتى “الكيانات الميتة” قد تعود إلى الحياة إذا تغيّرت الظروف.

الجامعة العربية اليوم كيان بلا أنياب، ولا صوت ولا فعالية. لكن مجرد بقائها في مصر هو “احتياطي رمزي” للزمن السياسي العربي المقبل. حين تتغير الظروف، وتظهر قيادات أكثر نضجًا وشرعية، يمكن حينها إحياء الجامعة أو إعادة صياغتها، لا استبدال رمز برمز أقل شرعية.

بدل أن ننقل مقر الجامعة من بلد إلى آخر، كمن ينقل جثة من تابوت إلى آخر، علينا أن نسأل: ما جدوى هذا الكيان أصلًا؟ وما الذي نريده منه؟ هل نريده مؤسسة تنطق بلسان القادة فحسب؟ أم نريده صوتًا للشعوب؟ وهل يمكن أن يكون كذلك في غياب أنظمة تحترم حقوق الإنسان والتمثيل الشعبي؟

أنا لا أتمسك بالقاهرة بدافع عاطفي، ولا أرى الجامعة العربية “منارة المستقبل”. لكنني أؤمن أن نقل المقر اليوم ليس سوى استعراض سياسي لا معنى له، لا يُعبّر عن إرادة الشعوب، ولا يضمن إصلاح الكيان ويدخل ضمن المناكفة السياسية.

الرمزية وحدها، في لحظات الغياب، قد تكون أثمن من الحركة في الاتجاه الخاطئ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى