رئيسة الاستخبارات البريطانية التي تتحدث العربية بطلاقة تسعى لاستعادة نفوذ بريطانيا في الشرق الأوسط وسط تراجع الدور السعودي وصعود الوساطات القطرية
من سعيد سلامة
لندن ـ يورابيا ـ من سعيد سلامة ـ قالت صحيفة التايمز البريطانية إن تعيين بليز ميتريويلي رئيسةً لجهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني (MI6)
جاء في لحظة حرجة تمر بها منطقة الشرق الأوسط، ومعها علاقات بريطانيا التقليدية في الإقليم، لا سيما مع المملكة العربية السعودية. وتشير الصحيفة إلى أن ميتريويلي، البالغة من العمر 48 عامًا، ليست فقط أول امرأة تتولى قيادة الجهاز، بل كذلك أصغر من شغل هذا المنصب في تاريخ الاستخبارات البريطانية.
كانت بداية مسيرتها الاستخباراتية في عام 1999، وركّزت خلالها بشكل كبير على قضايا الشرق الأوسط، حيث عاشت جزءًا من طفولتها في السعودية وتتقن العربية بطلاقة. هذه الخلفية دفعتها، بحسب زملائها السابقين، إلى التصريح مرارًا بطموحها لتولي قيادة الجهاز، وهو ما تحقق الآن وسط تحديات دولية متصاعدة، وإقليم متقلب.
الشرق الأوسط في مفترق حرج
تضيف الصحيفة أن ميتريويلي تمسك الآن بزمام جهاز الاستخبارات الخارجية في لحظة تشهد فيها المنطقة مفترق طرق استثنائي. فبعد الهجمات التي وقعت في 7 أكتوبر/تشرين الأول، تغيرت معادلات القوة بشكل درامي، وأصبحت إسرائيل تتصرف بصورة أحادية غير مسبوقة، حتى تجاه حلفائها المقربين. بريطانيا، في هذا السياق، وجدت نفسها في موقع المتفرّج، بعد أن كانت سابقًا من اللاعبين المؤثرين.
في الملف الفلسطيني-الإسرائيلي، تركّز الدور البريطاني خلال الشهور الأخيرة على قضايا إنسانية، كمحاولات إدخال المساعدات إلى غزة، في وقت يرى فيه بعض الدبلوماسيين أن إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتغيير استراتيجيته أصبح ضربًا من المستحيل، وأن النفوذ الفعلي يبقى حصريًا بيد الولايات المتحدة.
السعودية وإعادة رسم النفوذ
ترى التايمز أن الدور السعودي، وإن بدا في الظاهر أقل صخبًا في صراع غزة، إلا أنه يبقى محوريًا في تحديد مستقبل المنطقة. ومع الانشغال الأمريكي المتزايد بملفات أخرى، واحتمال تصاعد الدور القطري، يبدو أن ميتريويلي ستسعى إلى إعادة تموضع بريطانيا إلى جانب السعودية، التي تبقى شريكًا استخباراتيًا قويًا وضروريًا.
تشير الصحيفة إلى أن الخبرة السابقة لميتريويلي في المنطقة، والعلاقات المتداخلة بين بريطانيا والسعودية، يمكن أن تفتح نافذة أمام دور جديد أكثر نشاطًا. فقد يكون للمملكة المتحدة دور فعّال في تقييم الجدية السياسية للفصائل في غزة، أو التوسط في مفاوضات حساسة قد تحدث لاحقًا. هناك قنوات خلفية كثيرة لا تزال فاعلة، بحسب الصحيفة، وربما تكون MI6 بقيادة ميتريويلي الأداة التي تفعّل هذه القنوات لصالح دور بريطاني أكبر.
تحديات استخباراتية في بيئة جديدة
ورغم هذه الفرص، فإن التحديات هائلة. فعلى الصعيد الاستخباراتي، تؤكد التايمز أن إسرائيل أعادت فعليًا رسم قواعد اللعبة، وأثبتت أنها ستتخذ خطوات منفردة حتى ضد من تفاوضهم أو تتعاون معهم، كما حدث مع وسطاء حماس في قطر. هذه الإجراءات تجعل من الصعب على دول مثل بريطانيا، التي لا تمتلك أدوات ضغط مباشرة، أن تحافظ على أهميتها في الملفات الساخنة.
ومع تنامي أهمية التكنولوجيا، وتحولات ساحات المعركة من الأرض إلى الفضاء الرقمي، سيكون على ميتريويلي أن توازن بين الدبلوماسية التقليدية والعمل الاستخباراتي الحديث. من أبرز الملفات أمامها، بحسب التقرير، ملف إيران النووي، ومراقبة التحركات الإيرانية بعد الهجمات على منشآتها، بالإضافة إلى مواصلة مراقبة التهديدات القادمة من داعش والقاعدة.
ومن اللافت أن الصحيفة كشفت أن المملكة المتحدة ما زالت تشارك إسرائيل معلومات استخباراتية، خصوصًا تلك المتعلقة بالرهائن في غزة، عبر طائرات استطلاع تقودها جهات أمريكية متعاقدة. ولكن، ورغم التعاون، فإن العلاقة بين لندن وتل أبيب شهدت تراجعًا حادًا في الأشهر الأخيرة.
التحوّل الداخلي لـ MI6
من الناحية الداخلية، تقود ميتريويلي جهازًا يمر بمرحلة تحوّل. فبعد سنوات من السرية الصارمة، يسعى MI6 إلى أن يكون أكثر انفتاحًا وشفافية، بما في ذلك عبر الحضور النشط على وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وإنستغرام. وهي استراتيجية بدأها سلفها السير ريتشارد مور، وتبدو ميتريويلي ملتزمة بمواصلتها.
كما أن التحول الرقمي يشكل ركيزة أساسية لعمل الجهاز. فميتريويلي، التي شغلت منصب المدير العام “كيو” المسؤول عن التكنولوجيا والابتكار، ستكون في موقع قوي لمتابعة مشاريع متقدمة مثل تجنيد الجواسيس عبر الإنترنت، وحتى عبر شبكة الويب المظلمة.
الرؤية الاستراتيجية ودبلوماسية الاستخبارات
قال أحد زملائها السابقين في MI6، تحدث للصحيفة دون كشف هويته، إن ميتريويلي لم تكن فقط طموحة، بل كانت تمتلك رؤية واضحة منذ البداية. وفي ضوء تراجع التأثير البريطاني، قد تكون مهمتها الأساسية الآن هي إعادة تموضع جهاز الاستخبارات كأداة فعالة للسياسة الخارجية، خصوصًا في مناطق مثل الخليج العربي، حيث لا تزال العلاقات قوية لكنها تحتاج إلى تفعيل جديد.
سيكون على ميتريويلي تمثيل الجهاز أمام الحلفاء – مثل الولايات المتحدة والسعودية – وكذلك أمام شركاء غير متوقعين، في ما تسميه الصحيفة “دبلوماسية الاستخبارات”، وهي مسار يُنظر إليه باعتباره ضروريًا في عالم مليء بالتحديات الأمنية غير التقليدية.
فرصة لإعادة ضبط البوصلة
في الختام، ترى التايمز أن بليز ميتريويلي تقف أمام فرصة نادرة لإعادة ضبط بوصلة السياسة البريطانية في الشرق الأوسط. ومع عالم يزداد تعقيدًا، حيث تتداخل الأزمات الأمنية مع المعارك الرقمية، والحروب التقليدية مع الدبلوماسية الخلفية، يمكن لقيادتها أن تُحدث فرقًا إذا ما استُثمرت بالشكل الصحيح.
وفي عالم باتت فيه الدول تسعى إلى إعادة صياغة تحالفاتها بعيدًا عن الاصطفاف التام خلف واشنطن، فإن دور المملكة المتحدة، من خلال MI6، قد يعود إلى الواجهة إذا ما استطاعت ميتريويلي ترجمة خبرتها ومكانتها إلى نتائج ملموسة – خاصةً مع حليف تقليدي مثل السعودية، التي لا تزال رغم كل شيء مفتاحًا أساسيًا لفهم وتحريك توازنات المنطقة.