أقلام يورابيا

إيران بين كماشة تل أبيب وواشنطن… والعرب يصفقون للضربة القادمة

أحمد المصري

من الصعب على من يعرف التاريخ الحديث للمنطقة، أو على من عاشه، أن يمنح ثقته بسهولة للغرب حين يتحدث عن “الشرعية الدولية” و”التهديدات الوجودية” و”أمن المنطقة”.

فالعالم لم ينسَ بعد كيف اجتاحت الولايات المتحدة العراق بذريعة أسلحة دمار شامل لم توجد يوماً، وربط مزعوم بين صدام حسين وتنظيم القاعدة لا يزال حتى اليوم بلا دليل.

ذلك المشهد لم يكن فقط تلاعبًا بالرأي العام، بل كان نموذجًا صارخًا لتوظيف الأكاذيب من أجل غايات استراتيجية لا علاقة لها بما يُعلَن للعالم.
اليوم، تعاد الكرّة ولكن هذه المرة العنوان هو إيران، والسيناريو يبدو مألوفًا بشكل مقلق. فمنذ سنوات، يتم دفع المشهد باتجاه واحد: تفكيك المشروع النووي الإيراني بالكامل، وتقليم أظافر نفوذ طهران الإقليمي، وصولاً إلى تحجيم الجمهورية الإسلامية نفسها أو حتى إسقاطها إذا اقتضت الحاجة.

الغرب، بشراكة صريحة أو ضمنية مع إسرائيل وبعض العواصم العربية، يتقدم بهدوء ولكن بثبات في تنفيذ .هذا التصور، دون أن يُخفي أن الهدف النهائي هو القضاء على “محور المقاومة” ككل، وليس فقط البرنامج النووي

ما يجري اليوم ليس مفاوضات بقدر ما هو مرحلة من مراحل الإملاء، حيث تُقدَّم على طهران خطة لا تقبل التعديل: إما القبول بشروط أقرب للإذلال السياسي والعسكري، أو مواجهة آلة عقوبات وحصار وضربات قد تكون حاسمة. التوقيت حساس، والسياق مكشوف: جولات تفاوضية في عمان تقترب من نهايتها، إن لم تكن قد دخلت مراحلها الأخيرة فعلاً. والرسالة الغربية – التي تتردد أصداؤها في تصريحات العواصم الغربية وتحت الطاولة في تل أبيب – واضحة: لا مزيد من التمديد، لا مساحة للمناورة. آن أوان الحسم.
وفي قلب هذا المشهد، تقف إيران بين خيارين أحلاهما مر. فإذا قبلت بالشروط المفروضة، ستكون قد تنازلت عن جوهر مشروعها الاستراتيجي منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979، وستظهر أمام جمهورها وأذرعها في المنطقة عارية من أي أوراق ضغط حقيقية.

سيكون ذلك “كأس السم” الذي أشار إليه الإمام الخميني ذات يوم، حين وافق على وقف إطلاق النار مع العراق في نهاية حربٍ طاحنة امتدت لثماني سنوات. أما إذا رفضت، فهي تضع نفسها في مواجهة خطر حرب متعددة الوجوه، قد تبدأ بضربة إسرائيلية للمفاعلات النووية، لكنها لن تنتهي عند ذلك.
المفارقة أن هذا التصعيد ضد إيران يأتي في ظل صمت دولي مطبق تجاه الترسانة النووية الإسرائيلية، التي لا تخضع لأي رقابة دولية، ولا تعترف أصلاً بامتلاكها، رغم أن امتلاكها مؤكد من مصادر عدة.

هو نفس الغرب الذي ساعد في بناء مفاعل نووي عراقي عبر فرنسا، ثم شارك في تدميره لاحقاً بطلب من إسرائيل.

الغرب لا يعترض على إسرائيل النووية، ولا يطالبها بالشفافية، ولا يضغط عليها للانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار. في المقابل، تُجرّ إيران إلى الزاوية تحت تهديد دائم، فقط لأنها سعت لبناء قدرة نووية – ولو لأغراض معلنة بأنها سلمية.

المفارقة الأكثر مرارة أن بعض الدول العربية التي شاركت في إسقاط نظام صدام حسين، سواء بشكل مباشر أو من خلال التسهيلات السياسية واللوجستية، هي نفسها اليوم التي تقود ـ أو تشارك بنشاط ـ في جهود إسقاط النظام الإيراني أو على الأقل تحجيمه إلى أقصى حد.

تلك الدول، التي سوّغت حينها الاجتياح الأمريكي للعراق باعتباره “تحريرًا”، تُعيد اليوم التموقع في ذات المحور الذي يضغط لتجريد طهران من برنامجها النووي، وتهميش أذرعها في الإقليم، وربما فتح الباب لاحقًا لتغيير النظام ذاته.
تحوُّل الولاءات هنا لا يُبنى على مبدأ أو موقف مبدئي من سياسات طهران، بل على حسابات النفوذ الإقليمي، حيث ترى بعض العواصم الخليجية أن لحظة استنزاف إيران قد تمثل فرصة تاريخية لإعادة ترسيم خرائط القوة في المشرق العربي.
وهنا تتماهى الحسابات المحلية مع الأجندة الغربية، في مشهد يتكرر دون أن تتغير نتيجته: تدمير دولة مركزية في المنطقة، دون ضمان لما قد يأتي بعد ذلك من فوضى أو انهيار شامل.

وفي خضم هذا التصعيد، لا يمكن تجاهل الأصوات العربية التي لا تكتفي بالصمت، بل تصفق بحماسة لأي ضربة قادمة ضد إيران، وكأن المنطقة لم تتعلم شيئًا من درس العراق. تُقدَّم الضربة المحتملة على أنها انتصار استراتيجي، لا كارثة إقليمية جديدة، فيما يتجاهل المهللون أن النيران حين تشتعل لا تُفرّق كثيرًا بين العدو والحليف.

اللافت أن كل هذا يحدث في لحظة تبدو فيها المنطقة بأسرها وكأنها على وشك إعادة تشكيل. النظام الإقليمي يتغير، موازين القوى تُعاد صياغتها، والحسابات القديمة لم تعد صالحة.

إسرائيل في حالة قلق دائم من فقدان تفوقها الاستراتيجي، وإيران تدرك أن زمن المجاملات انتهى، وأن كل تأخير في الحسم يعني مزيداً من الضعف.
ماذا ستفعل إيران إذا وُجهت ضربة للمفاعلات؟ لا أحد يستطيع التنبؤ بدقة. قدرة الردّ الإيرانية ليست مجرد ورقة إعلامية، لكنها أيضاً ليست مطلقة. فالمعركة المقبلة، إن اندلعت، لن تكون فقط حول منشآت، بل حول هوية المنطقة بأسرها. والغرب يعرف ذلك، لكنه لا يبدو معنيًّا إلا بضمان أمن إسرائيل وتأكيد الهيمنة.
في هذا المشهد المعقد، يُطلب من المتابع أن يصدق الخطاب الغربي كما هو، أن ينظر إلى تصريحات السياسيين لا إلى خططهم، إلى الكلام لا إلى الأفعال. لكن الحقيقة أن من كذب بشأن العراق، ومن صمت عن سلاح إسرائيل، لا يملك الأهلية الأخلاقية ليطالب غيره بالنزاهة أو الشفافية.
ما يحدث اليوم هو اختبار لكل من يملك ذاكرة سياسية. فليس كل صراع يُروّج له في الإعلام هو حرب “ضرورة”، وليس كل “خطر” نووي هو خطر فعلي. أحيانًا يكون مجرد ذريعة لتفكيك ما تبقى من توازن في هذه المنطقة المنكوبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى