أقلام يورابيا

من بيروت إلى غزة: خطايا المنظمة وسقوط الأقنعة… من كان منكم بلا خطيئة فلينتقد حماس

أحمد المصري

 منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وُضعت على عاتقها مهمة تمثيل الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة في المحافل الدولية، وكانت تبدو لكثيرين بمثابة الحلم السياسي الجامع. إلا أن هذا الحلم سرعان ما بدأ يتآكل بفعل أخطاء جسيمة، لم تكن مجرد هفوات تكتيكية، بل تحوّلت إلى انحرافات استراتيجية قاتلة ساهمت في إضعاف المشروع الوطني الفلسطيني، وإهدار فرص تاريخية، وضياع تضحيات أجيال.

هذه الأخطاء لم تكن معزولة عن السياق العربي والدولي، لكنها أيضاً لم تكن حتمية، بل جاءت نتيجة خيارات قيادية، وتحالفات غير محسوبة، وتغليب المصالح التنظيمية على المصلحة الوطنية.

من بين أبرز تلك الأخطاء، ارتهان القرار الفلسطيني للأنظمة العربية، والتنقل السياسي والعسكري بين عواصمها، ما جعل المنظمة أداة في صراعات الآخرين أحياناً، ودفعها إلى التورط في حروب لا ناقة للفلسطينيين فيها ولا جمل.

حدث ذلك بوضوح في الأردن عام 1970 خلال أحداث أيلول الأسود التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 3,000 فلسطيني، ثم في لبنان، حيث تسببت سياسات المنظمة وحساباتها الخاطئة في إقحام الفلسطينيين في قلب الحرب الأهلية، وانتهى الأمر بواحدة من أعنف الحملات العسكرية الإسرائيلية على بيروت عام 1982، التي سقط فيها آلاف الضحايا من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين، إضافة إلى مجازر مروعة مثل صبرا وشاتيلا.

“ولا يمكن في هذا السياق إغفال مجزرة تل الزعتر عام 1976، التي راح ضحيتها ما يزيد عن 3,000 فلسطيني، في واحدة من أبشع المجازر التي شهدها لبنان إبان الحرب الأهلية.

المخيم حوصر وقُصف لأكثر من شهرين من قبل ميليشيات لبنانية، وسط صمت مريب وعجز قاتل من منظمة التحرير، التي لم تتدخل بجدية لفك الحصار أو حماية المدنيين. وعندما زار ياسر عرفات الناجين لاحقًا، استُقبل بالغضب والشتائم، بل قُذف بالحجارة من قبل سكان غاضبين، في مشهد يعكس عمق الجرح وانهيار الثقة بين القيادة والشعب. لقد كانت تل الزعتر أكثر من مجزرة، كانت علامة سوداء على فشل الحماية الوطنية، ودرسًا لم يُستفد منه لاحقًا.”

ولم يكن موقف المنظمة خلال غزو العراق للكويت عام 1990 أقل كارثية. عندما قررت قيادة المنظمة، وعلى رأسها ياسر عرفات، تأييد صدام حسين، بحسابات سياسية ضيقة وغير مسؤولة، دفعت الجالية الفلسطينية في الكويت ـ والتي كانت تعدّ نحو 400,000 نسمة ـ ثمناً فادحاً.

فقد تم تهجير الغالبية العظمى منهم بعد التحرير، وتعرض كثيرون للاعتقال والتنكيل، وخسر الفلسطينيون واحدة من أكثر الجاليات استقراراً وفاعلية اقتصادياً في الخليج بل وأكبر داعم في الخليج للقضية الفلسطينة وهم حكومة الكويت وشعبها.

وتكرر المشهد لاحقاً في ليبيا، حيث استخدم نظام القذافي الفلسطينيين كورقة ضغط، وانتهى بطرد الآلاف منهم، ما فاقم من معاناة التشريد والشتات.

كذلك، فإن الاعتماد المفرط على الكفاح المسلح دون رؤية سياسية متماسكة، أدى إلى عزل القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي، وتحويلها إلى ملف أمني، بدلًا من كونها نضالاً من أجل الحرية.

وعندما اندلعت الانتفاضة الأولى، كان بإمكان المنظمة أن توظفها لإعادة الاعتبار للقرار الفلسطيني المستقل، لكنها تعاملت معها كأداة تفاوضية، سرعان ما قادت إلى اتفاق أوسلو، الذي يمثل في نظر كثيرين الخطأ القاتل الأكبر.

اتفاق أوسلو عام 1993، الذي وقعته المنظمة مع إسرائيل، جاء دون ضمانات حقيقية، أو وقف للاستيطان، أو جدول زمني لإنهاء الاحتلال. في المقابل، حصلت إسرائيل على اعتراف فلسطيني رسمي بها، دون أن تعترف هي بالحقوق الفلسطينية، لا بدولة ولا بحق العودة. بل إن سنوات ما بعد أوسلو شهدت تضاعف الاستيطان ثلاث مرات على الأقل، وتكريس الاحتلال عبر تقسيم الضفة إلى مناطق “أ، ب، ج”، وتنصيب السلطة الفلسطينية كجهاز إداري يخدم التزامات “التنسيق الأمني” والاحتلال، أكثر مما يخدم حلم التحرير.

التحول من الثورة إلى سلطة أدى إلى نشوء طبقة سياسية فاسدة ومترهلة، بعيدة عن نبض الشارع، احتكرت القرار الوطني، وأقصت المعارضين، وهمّشت الشباب، وأفرغت مؤسسات منظمة التحرير من مضمونها. وقد بلغ هذا الانفصال عن القاعدة الشعبية ذروته في رفض القيادة الذهاب إلى انتخابات حرة منذ ما يزيد عن 15 عاماً، تحت ذرائع واهية، رغم تآكل شرعيتها.

وعندما وصلت حركة حماس إلى الحكم عبر الانتخابات التشريعية عام 2006، التي شهد لها العالم أجمع بالنزاهة والشفافية ـ وأشادت بها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وكل المراقبين الدوليين ـ فوجئت القيادة الفلسطينية والدول الكبرى بأن نتائج الديمقراطية لم تكن كما توقعت.

وبدلاً من احترام إرادة الشعب الفلسطيني، تم حصار غزة سياسياً واقتصادياً، وقطعت عنها الرواتب والمعابر والكهرباء، وتم الانقلاب على نتائج الانتخابات باسم “المصلحة الوطنية”.

وهنا أيضاً، لا يمكن القفز فوق الدور الإسرائيلي المحوري في هذا الحصار، الذي استُخدم كسلاح لتجويع وتجفيف غزة منذ ما يزيد عن 17 عاماً، عبر إغلاق المعابر، والتحكم بالوقود والدواء، ومنع التصدير والاستيراد، وشن الحروب المدمرة، التي حصدت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، كان معظمهم من المدنيين.

نعم، أخطأت حماس في بعض الملفات بعد سيطرتها على غزة، وانزلقت في ممارسات سلطوية مشابهة لما فعله خصومها، من قمع وتضييق، وغياب للشفافية، وخلط للدين بالسياسة، وتكريس للهيمنة الفئوية.

لكنها في الوقت نفسه، وجدت نفسها محاصرة من الجميع، تُحارب لا فقط بالسلاح، بل بالسياسة والاقتصاد والدعاية. والمفارقة أن النقد الذي يوجّه لحماس اليوم، من قِبل قيادات في منظمة التحرير، يتجاهل تماماً السياق الذي أُجبرت فيه الحركة على الحكم، كما يتجاهل أن من ينتقد، كان شريكاً في ارتكاب خطايا مماثلة ـ وربما أشد ـ منذ عقود.

إن تحميل حماس وحدها مسؤولية ما وصلت إليه غزة، هو قفز على الواقع وتبرئة غير مبررة للاحتلال أولاً، وللسلطة الفلسطينية ثانيًا، التي شاركت فعليًا في خنق غزة اقتصاديًا وسياسيًا.

ولا يمكن لمن بارك أوسلو، وأيّد صدام، وغطى مجازر صبرا وشاتيلا وتل الزعتر بالصمت، وشارك في التنسيق الأمني مع الاحتلال، أن يتحدث اليوم عن أخلاق المقاومة أو شرعية الحكم دون أن يبدأ بمحاسبة نفسه. من كان منكم بلا خطيئة، فلينتقد حماس، ولكن من موقع المسؤولية لا الوصاية، ومن موقع المراجعة لا من منصة التوبيخ.

الفلسطينيون، داخل الأرض المحتلة وفي الشتات، سئموا الخطابات المتعالية، وتعبوا من انقسامات الفصائل، ولم يعد يهمهم من يحكم، بقدر ما يهمهم أن يعيشوا بكرامة، وأن يروا مشروعًا وطنيًا جامعًا يعيد ترتيب الأولويات ويضع الاحتلال في صدارة المعركة. إن نقد حماس أو فتح أو غيرهما لا يجب أن يكون سلاحًا في يد أحد، بل يجب أن يكون بوابة لحوار وطني حقيقي، يعترف بالأخطاء، ويبدأ من القاعدة، لا من صراعات القمم الفارغة.

ما نحتاجه ليس سلطة في غزة أو سلطة في رام الله، بل سلطة في الضمير الجمعي الفلسطيني، سلطة المشروع، لا الأشخاص. والنقد، ما لم يكن صادقًا، ومتزنًا، وعابرًا للفصائل، سيظل مجرد حلقة جديدة في مسلسل إضاعة الوقت والفرص. وإذا كان لا بد من النقد، فليبدأ من الذات. فالتاريخ لا يرحم، والشعب لا ينسى، والفرص لا تنتظر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى