أقلام يورابيا

نهاية عصر اللاعبين القدامى.. الشرق الأوسط يعاد تشكيله من واشنطن الجديدة

أحمد المصري

بينما تنشغل العواصم العربية بترميم تداعيات الحروب والاقتصاد المنهك، وبينما تغرق إسرائيل في أسوأ أزماتها السياسية والأمنية، فإن ما يدور خلف الأبواب المغلقة في واشنطن يشير إلى ثورة صامتة في مقاربة الولايات المتحدة للشرق الأوسط. هذه المرة، وبحسب مصادر مختلفة ليست ثورة نتيجة صعود أيديولوجيا جديدة أو انحياز أخلاقي، بل مدفوعة باعتبارات المال والتكنولوجيا و”البزنس”.

إنها سياسة الواقعية السياسية المرتبطة بالمصالح، والتي يبدو أن الرئيس دونالد ترامب هو من وضع بذورها بشعاره ” أمريكا أولا “، فيما تبنّاها بهدوء مؤثرون نافذون في أروقة القرار الأمريكي والاوروبي.

في اللحظة التي تنفلت فيها الأزمة في غزة، ويتصاعد التوتر على الحدود الشمالية لإسرائيل، وتهتز حكومة نتنياهو بين اتهامات الفساد وسوء الإدارة العسكرية، تسري داخل واشنطن قناعة آخذة في التجذر: لا بد من نهاية نتنياهو، ولكن بلا محاكمة وخروج امن من الحكم.

الرجل الذي كان أحد ركائز واشنطن لم يعد صالحًا لحمل أجندة تل أبيب أمام المؤسسات الجديدة في أمريكا او احتما مغامراته اشخصية. تمامًا كما يتم تغيير رئيس مجلس إدارة في شركة كبيرة، سيغادر نتنياهو بهدوء وضمانات، لا محاكمات، كي لا تنهار صورة الدولة التي طالما سوقتها واشنطن كواحة ديمقراطية في صحراء الشرق الأوسط رغم ما تسبب به من هلع في المنطقة ،سواء فيما يحدث بغزة او سوريا او الهجوم على ايران.

ويدور في اروقة تل ابيب ان تحالفًا يشمل يائير لابيد وغادي أيزنكوت وبنت مع كتلة “الديمقراطيين” المشكل من بقايا حزبي العمل وميرتس، يمكن أن ينتج عنه 45 مقعدًا في الكنيست – وهو توجه يدعم فكرة بناء تحالف ديمقراطي شامل يتجاوز الانقسام التقليدي ويكون بديلا لحكومة نتانياهو واليمين المتطرف في اسرائيل .

في الجهة المقابلة، لا تبدو السلطة الفلسطينية بمنأى عن إعادة الهيكلة. كل ما يُسرب من اجتماعات مغلقة بين واشنطن وعدد من الزعماء العرب يشير إلى ترتيبات تجري بصمت لترتيب المشهد الفلسطيني ما بعد محمود عباس. الرجل، الذي تجاوز الثمانين، لم يعد قادرًا على قيادة مرحلة ما بعد الحرب على غزة، ولا مؤهلًا للتعامل مع تحديات إعادة الإعمار أو احتواء قوى جديدة اضافة الى ان فساد السلطة الفلسطينية ازكم انوف صناع القرار في واشنطن. وترجح تسريبات من واشنطن ان عباس سيستدعى الى واشنطن الاسبوع المقبل ثم سيطلب منه عدم العودة الى رام الله والبقاء في العاصمة الاردنية عمان.

السيناريو الأمريكي ـ الذي تشارك فيه عواصم عربية أساسية في المنطقة ـ يتمحور حول إصلاح السلطة الفلسطينية داخليًا، وتقديمها بهيئة جديدة للعالم، أكثر رشاقة وأكثر مصداقية يمكنها ان تدخل قطاع غزة.

في هذا السياق، تبرز أسماء مثل حسين الشيخ، المدعوم من أطراف إقليمية بينها السعودية، إلى جانب مرشحين آخرين يُطرحون كوجوه تكنوقراطية أو عسكرية، مهمتهم الأساسية إعادة بناء السلطة على أسس جديدة، تكون فيها الشفافية ومحاربة الفساد شرطًا مسبقًا لأي دعم مالي أو سياسي.

أما غزة، فإن المشهد فيها يُرسم على طاولة منفصلة، كما تشير تلك المصادر، فالحديث لا يدور فقط عن إعادة إعمار أو هدنة طويلة الأمد، بل عن إدارة مؤقتة عربية ـ دولية للقطاع، تتولاها مجموعة مختارة من الدول ( مصر، قطر، الإمارات، وبعض المؤسسات الدولية). الهدف المعلن هو إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار، أما الهدف الضمني فهو إخراج غزة من قبضة السلاح والمقاومة، وتحويلها إلى منطقة “ذكية”، بمطار وميناء ُيقام في أراضي سيناء المصرية، وأبراج سكنية وتجارية تحاكي النموذج الخليجي. ومقابل هذا، ستُعوض مصر سياسيًا واقتصاديًا، باعتبارها الشريك الذي منح “الأرض” لتحقيق “الحل”. الدائم.

في سوريا، يترسخ انطباع في غرف واشنطن المغلقة بأن بقاء النظام ليس هدفًا، لكن تغييره الفوضوي لم يعد خيارًا. لذلك، فإن خطة التطبيع المشروط تُطرح بهدوء: انخراط سوري تدريجي في المنظومة الإقليمية، مقابل تنازلات سياسية واقتصادية، وأمنية لاحقًا. بكلمات أخرى: ستعود سوريا إلى الحظيرة، لكن بملف مفاوضات مفتوح، وخطوات محسوبة، ليس فقط تجاه إسرائيل، بل تجاه الداخل السوري المنهك، واللاعبين الإقليميين كتركيا وإيران.

أما إيران نفسها، فإن تحولات كبرى تُعدّ لها في الغرف الخلفية. لم يعد الحديث عن ضربة عسكرية، بل عن تغيير في بنية النظام نفسه، ربما عبر استبدال تدريجي للحرس الثوري بتيار تكنولوجي ـ اقتصادي أكثر انفتاحًا، ضمن صفقة كبرى تشمل ملفات الأمن النووي والاقتصاد الإقليمي. التقديرات الأمريكية الجديدة تقول إن تغيير النظام الإيراني لن يأتي بالدبابات، بل بالاستثمار والإنترنت.

في النهاية، ما يمكن رصده بوضوح هو أن مراكز القرار الجديدة في واشنطن – والتي تدين بالولاء للبورصات وشركات الذكاء الاصطناعي ومجموعات الضغط الاقتصادي – بدأت تقص أجنحة “الدولة العميقة” القديمة التي حكمت السياسة الخارجية لعقود. الشرق الأوسط بالنسبة لهؤلاء ليس ملعبًا للأفكار والمشاريع العقائدية، بل سوق يجب تبريده ليُعاد تأهيله. والأسلوب الجديد لا يصنع المعجزات، لكنه يعيد ترتيب أوراق اللعبة بمقاييس: العائد على الاستثمار، لا الولاء الأيديولوجي.

هل تنجح هذه المقاربة؟ الجواب ليس محسومًا بعد. لكن المؤكد أن اللاعبين القدامى يخرجون من المشهد، واحدًا تلو الآخر، برغبة أمريكية واضحة، وبصفقات محسوبة، تكتب من جديد مستقبل المنطقة على ورق الدولار والرقمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى