تتراقص سوريا من جديد على إيقاع التجاذبات الإقليمية والدولية المعقدة، فبعد سنوات من الصراع يبدو أن المشهد لم يتضح بعد، وفي خضم هذه التطورات المتسارعة تبرز زيارة وزير الخارجية السوري إلى موسكو كحدث مفصلي يطرح تساؤلات حاسمة حول مستقبل النفوذ الروسي وحليفه الإيراني بالإضافة إلى إمكانية إصلاح حكومة الشرع، إن هذا التحليل المعمق يسعى لتفكيك خيوط هذه الزيارة، ويكشف عن الضغوط الخفية والتنازلات التي تدفعها دمشق في سبيل الحفاظ على بقائها.
الأسباب الخفية لزيارة الشيباني لموسكو: دفع الأثمان لتجنب الانهيار
لم تكن زيارة وزير الخارجية السوري إلى موسكو مجرد لقاء دبلوماسي روتيني بل كانت استجابة عاجلة لدعوة روسية مفاجئة تم ترتيبها ببراعة من خلف الكواليس يكشف التحليل الدقيق أن تركيا كانت القوة المحرِّكة وراء هذه الزيارة مدفوعة بقلق بالغ من التداعيات المتفاقمة للأحداث الأخيرة في السويداء إلى جانب التقرير الصادم للمبعوث الأممي جاري بيدرسون من جهة شكل تقرير بيدرسون مصدر قلق عميق لأنقرة فقد تضمن التقرير اتهامات قوية ومطالبات ملحَّة لحكومة الشرع ما أثار مخاوف تركية من أن يُستغل هذا التقرير في ظل استمرار قرار مجلس الأمن “2254” لدفع روسيا نحو تحركات حاسمة في مجلس الأمن، وهذا السيناريو كان من شأنه أن يقوِّض المشاريع التركية الداعمة لحكومة الشرع في سوريا بشكل كبير، ومن جهة أخرى شعرت تركيا بخطر التحركات الروسية المحتملة في منطقة الساحل السوري، إذ تدرك أنقرة جيدًا أن هناك مخططات روسية لدعم شخصيات معينة مثل سهيل الحسن ورامي مخلوف وهو ما قد يفجر صراعًا عنيفًا جديدًا ويدفع نحو مجازر تؤدي إلى إنهاء أي شرعية باقية لحكومة الشرع، لهذه الأسباب الإستراتيجية تبلورت زيارة الشيباني إلى موسكو لتكون بمنزلة تقديم تنازلات غير معلنة لروسيا كان الهدف الأساسي هو ضمان عدم تقديم موسكو أي دعم لتحركات معادية لحكومة الشرع ووقف أي مساعٍ روسية لرفع القضية أمام مجلس الأمن فضلاً عن منع إعطاء الضوء الأخضر لأي عمليات عسكرية في الساحل، وهذا السياق يفسر أيضًا مطالبة روسيا بزيارة وزير الدفاع السوري لتأكيد التزام دمشق باستمرار الوجود العسكري الروسي وقواعده في سوريا مما يعزز هيمنة موسكو على المشهد الأمني.
النفوذ الروسي المتصاعد وشروط موسكو الصريحة
بعد انتهاء زيارة الشيباني من المتوقع أن يتعزز التأثير الروسي في المشهد السوري بشكل لافت فالرسائل التي أطلقها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عقب لقائه بنظيره السوري كانت واضحة ولا لبس فيها حيث أكد لافروف على ضرورة الحوار بين حكومة الشرع وجميع المكونات السورية إلى جانب تقديم دعم قوي للأكراد، هذه الشروط الروسية لا تعكس فقط رؤية موسكو لمستقبل سوريا بل تتضمن أيضًا إشراك أطراف متعددة في العملية السياسية وهو ما يتعارض جوهريًا مع موقف حكومة الشرع التي طالما أنكرت وجود مكونات أو أقليات تحتاج إلى تمثيل أو حوار.
إيران وإستراتيجية “الصبر العقائدي”: استغلال الأخطاء لتعزيز النفوذ
في ظل التحديات الدولية المتزايدة التي تواجهها إيران سواءً فيما يتعلق بملفها النووي أو علاقاتها المعقدة مع حلفائها الإقليميين تواصل طهران الاعتماد على إستراتيجية الصبر الإستراتيجي وتتمحور هذه الإستراتيجية حول شراء الوقت والحفاظ على حاضنتها الشعبية، فضلاً عن تعزيز مشروعها العقائدي في المنطقة، وبينما يتركز الاهتمام الدولي بشكل كبير على الوضع في لبنان وتشير المعلومات المتاحة إلى أن إيران تستغل ببراعة الأخطاء الداخلية المتكررة لحكومة الشرع في سوريا لترسيخ نفوذها وإعادة بناء قوتها العسكرية عبر وكلائها في المنطقة، إذ تعتبر إيران أن الصراع في سوريا قد تحول أو تم تحويله إلى حرب عقائدية وطائفية وهو ما يصب في مصلحتها الإستراتيجية لتعزيز تعبئة حلفائها، فالأخطاء الفادحة التي ارتكبتها حكومة الشرع في التعامل مع أحداث السويداء والساحل إلى جانب تفشي التطرف المسلح تدفع شرائح واسعة من الشعب السوري بما في ذلك الحاضنة الشعبية لحزب الله في لبنان إلى التمسك بالسلاح ودعم المحور الإيراني، وينبع هذا الدعم المتجدد من خوف عميق من تكرار المصير نفسه الذي عانته بعض المناطق وهو ما يفسر عودة الدعم لحزب الله في لبنان الذي كان قد شهد تراجعًا ملحوظًا بسبب فقدان الثقة في جدوى سلاحه سابقًا.
هل حكومة الشرع قابلة للإصلاح حقًا؟ سؤال يطرح نفسه بقوة
حسب المعطيات المتوفرة والواضحة تماما للجميع يذهب التحليل إلى استنتاج صريح مفاده أن حكومة الشرع ليست قابلة للإصلاح في ظل الوضع الراهن، فالأخطاء الفادحة التي ترتكبها هذه الحكومة على الصعيد الداخلي تنعكس سلبًا وتدفع ثمنها باهظًا على الصعيد الخارجي، والفساد المتفشي بشكل يثير الغرابة ونشر التطرف المسلح وغياب الشفافية بالإضافة إلى السيطرة الأيديولوجية لهيئة تحرير الشام على مفاصل الإدارة والوزارات، كل هذه عوامل جوهرية تمنع أي إصلاح حقيقي وفعال، حتى الولايات المتحدة ممثلة في شخص توماس باراك غيرت موقفها بوضوح مؤكدة أن واشنطن لن ترفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب إلا بعد رؤية إصلاحات حقيقية على أرض الواقع من جانب أحمد الشرع وحكومته، إن هذا التحول في الموقف الدولي يشير بوضوح إلى خيبة أمل واسعة النطاق من أداء حكومة الشرع وعجزها عن تلبية التوقعات الدولية والإقليمية.
يظل المشهد السوري معقدًا ومتشابكًا حيث تتصارع المصالح الدولية والإقليمية في لعبة شطرنج لا نهاية لها، ومن الواضح أن زيارة أسعد الشيباني إلى موسكو كشفت بشكل جلي عن ضعف حكومة الشرع الشديد وحاجتها الماسة لتقديم تنازلات مؤلمة لضمان بقائها، وفي المقابل تستغل روسيا هذا الضعف لتعزيز نفوذها الإستراتيجي بينما تواصل إيران تنفيذ إستراتيجيتها الصبورة مستفيدة بذكاء من الأخطاء الداخلية التي ترتكبها حكومة الشرع.
إن هذه التطورات لا تنبئ بحل مستدام للأزمة السورية في الأفق القريب بل قد تزيد من تعقيد المشهد وتعميق الأزمة، فهل ستتمكن سوريا من الخروج من هذه الدائرة المفرغة من التجاذبات والصراعات أم ستظل رهنًا لأجندات لا تخدم مصالح شعبها؟