السويداء بين نيران الداخل وضغوط الخارج.. تصعيد دموي وتدخلات إسرائيلية ونذر أزمة إقليمية
من سعيد إدلبي
دمشق ـ يورابيا ـ من سعيد إدلبي ـ شهد محافظة السويداء في جنوب سوريا تصعيدًا غير مسبوق بين مقاتلين دروز وعشائر بدوية، وسط حالة من الغموض السياسي والتداخلات الإقليمية المعقدة، حيث تداخلت الاشتباكات المحلية مع ضربات إسرائيلية وادعاءات بحماية الأقلية الدرزية، في وقت تتزايد فيه الدعوات الدولية لمحاسبة المسؤولين عن أعمال القتل والانتهاكات التي وثقتها منظمات حقوقية دولية.
نزاع محلي يتفجر… والدولة تنسحب
الأحداث بدأت مطلع الأسبوع حين اندلعت مواجهات دامية بين مسلحين دروز وعناصر من عشائر بدوية، ما دفع قوات الجيش والأمن السورية إلى التدخل مؤقتًا، قبل أن تعلن الرئاسة السورية مساء الخميس عن اتفاق لوقف إطلاق النار، يتضمن انسحاب القوات الحكومية وتسليم مهمة حفظ الأمن إلى الفصائل المحلية ومشايخ الطائفة الدرزية.
لكن الاتفاق سرعان ما انهار مع تجدّد الاشتباكات يوم الجمعة، بعد اتهامات لمجموعة درزية مرتبطة بالزعيم الروحي حكمت الهجري بتهجير عشائر بدوية من ريف السويداء الغربي، ما فجّر موجة جديدة من العنف وتبادل إطلاق النار، وسط أنباء عن سيطرة البدو على بعض القرى، بحسب ما أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان.
ورغم نفي وزارة الداخلية السورية إرسال قوات إضافية إلى السويداء، أشارت مصادر إسرائيلية إلى أن تل أبيب وافقت على “دخول محدود” لقوات الأمن الداخلي السورية لمدة 48 ساعة، في خطوة نادرة، وُصفت بأنها “استجابة لعدم الاستقرار” في جنوب غرب سوريا، ما يعكس وجود تفاهمات خلف الكواليس برعاية إقليمية.
إسرائيل تدخل على خط الأزمة… مساعدات وقصف وغارات
تحت ذريعة “حماية الدروز”، صعّدت إسرائيل تحركاتها الميدانية والسياسية تجاه الجنوب السوري، فبعد إعلان وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إرسال مساعدات إنسانية بقيمة مليوني شيكل إلى دروز السويداء، شنت طائرات إسرائيلية مسيّرة سلسلة غارات جوية فجر الجمعة استهدفت مواقع داخل المحافظة، إضافة إلى مواقع في دمشق ودرعا.
ووفق المرصد السوري، فقد سقط في أعمال العنف أكثر من 500 قتيل خلال أسبوع، فيما تحدثت تقارير عن استهداف مباشر لمقرات حكومية ومناطق مدنية، بينها محيط القصر الرئاسي في دمشق، وهو ما وصفته منظمات حقوقية بخرق صارخ للقانون الدولي.
ويأتي هذا التصعيد الإسرائيلي بعد أيام من تقارير أفادت بأن حكومة نتنياهو تبحث فرض منطقة “منزوعة السلاح” في الجنوب السوري، بذريعة حماية الدروز السوريين، الذين يشكلون أقلية دينية مؤثرة داخل إسرائيل ولبنان، وتربط بعض قياداتهم في إسرائيل علاقات وثيقة بمؤسسات الدولة.
الأمم المتحدة تدين وتطالب بالمحاسبة
في موقف دولي لافت، دعا مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك الحكومة السورية إلى ضمان محاسبة المتورطين في أعمال القتل والانتهاكات التي وقعت خلال الأيام الماضية في السويداء، مشيرًا إلى تقارير موثوقة تفيد بوقوع “إعدامات ميدانية، وخطف، وتدمير ممتلكات” من قبل أطراف متورطة، بعضها تابع للسلطات المؤقتة وأخرى لمجموعات مسلحة من البدو والدروز.
وأكد تورك في بيان رسمي أن مكتبه تلقى شهادات مروّعة من سوريين يعيشون في رعب دائم، مشددًا على ضرورة الوقف الفوري لسفك الدماء، وضمان حماية المدنيين وفقًا للقانون الدولي. كما عبّر عن قلقه الشديد إزاء الغارات الجوية الإسرائيلية، التي قال إنها تسببت في سقوط قتلى مدنيين في السويداء ودرعا ودمشق.
واشنطن تُمسك العصا من المنتصف
في تعليقها على الأحداث، أكدت وزارة الخارجية الأميركية أنها لا تؤيد الغارات الإسرائيلية الأخيرة، داعية إلى وقف دائم لإطلاق النار في السويداء. وقالت المتحدثة باسم الخارجية تامي بروس إن الولايات المتحدة تعمل دبلوماسيًا مع الطرفين السوري والإسرائيلي للتهدئة، رافضة التصعيد الإسرائيلي رغم تفهمها “لحساسية الوضع الديني والاجتماعي في السويداء”.
ورغم ذلك، لم تدن واشنطن بشكل صريح الهجمات الإسرائيلية، كما لم تعارض إرسال مساعدات للدروز، ما يُفسر على أنه دعم ضمني لجهود إسرائيل في تعزيز نفوذها في الجنوب السوري، مع الحفاظ على التوازن السياسي تجاه دمشق.
السويداء بين الانقسام الداخلي والتجاذب الإقليمي
مع تجدد العنف، تبدو السويداء اليوم ساحة صراع معقّد يتجاوز طبيعته المحلية. فالخلافات التاريخية بين الدروز والبدو، والمتفاقمة نتيجة الفراغ الأمني وتعدد الولاءات، أصبحت ذريعة تتسابق فيها أطراف خارجية لتعزيز وجودها أو تنفيذ أجنداتها، وسط بيئة مشبعة بالسلاح والتوتر.
وتسعى إسرائيل للاستثمار في هذه الفوضى لتعزيز نفوذها السياسي والأمني عبر المساعدات، والغارات، وتقديم نفسها كـ”حامٍ للأقلية الدرزية”، في وقت تحاول فيه دمشق ضبط المشهد عبر التفاهم مع قيادات درزية محلية، تحت رعاية روسية وعربية وأميركية غير معلنة.
بين انسحاب حكومي جزئي، وتدخل إسرائيلي مشروط، وضغوط دولية متصاعدة، تبدو السويداء على فوهة انفجار دائم، حيث تتهدد اللحمة الوطنية السورية قوى داخلية مسلّحة وخارجية طامعة. وتبقى آمال التهدئة رهينة قدرة المجتمع الدولي على ضمان وقف فعلي لإطلاق النار، ومحاسبة من تورطوا في انتهاكات بحق المدنيين، إلى جانب الحاجة الملحّة لحوار محلي شامل يحفظ حقوق الجميع دون تدخلات خارجية تزيد النار اشتعالًا.