أقلام يورابيا

ياسمين الخيام تبتهل بالمولد النبوي

كرم نعمة

كنت محظوظا هذا الأسبوع وأنا أحتفي مع نفسي بالمولد النبوي الشريف عندما استمعت إلى ثلاثة أصوات غنائية عربية شابة، لم أسمعها من قبل، تدخل صوتها في رهان موسيقي بالغ الصعوبة وهي تعيد أداء أنشودة “محمد يا رسول الله” التي كتبها الشاعر عبدالفتاح مصطفى وأرخ فيها الموسيقار جمال سلامة لما يجعل الموسيقى ترقى بجوهرها إلى آماد روحية بعيدة. فسلامة لم يلحّن القصيدة كنص فقط، بل جعلها رحلة وجدانية: الجملة الموسيقية لا تتكرر إلا لتأخذ معنى جديدًا في المرة الثانية.

وكانت ياسمين الخيام الفنانة المعتزلة حاضرة اليوم وهي تؤدي تلك الأنشودة الدينية التي مر عليها أكثر من نصف قرن بروحانية معبرة، عندما قدّمت اتساقًا أدائيًا نادرًا: نَفس محسوب، ذبذبة منضبطة، زخرفة خادمة للمعنى، ودينامية لا تكسر السكينة.

إعادة أداء “محمد يا رسول الله” من قبل أصوات معاصرة تنم عن مسؤولية عالية وحس ذوقي يبقي الموسيقى المعبر الأمثل عن الروح الإنسانية المتسامية مع قيمها.

كانت هذه الأنشودة بمثابة بصمة خاصة في مسيرة ياسمين الخيام، إذ جمعت بين صفاء صوتها والقوة الروحانية في اللحن والكلمات. وهي تمثل نموذجًا لأسلوب جمال سلامة في تحويل النصوص الدينية إلى تجربة وجدانية ملحّنة، لا مجرد جمل موسيقية تقليدية.

يبدأ اللحن بمدخل مقام العجم، وهو مقام روحي قريب من السمع الشرقي، يمنح دفئًا وطمأنينة، ويلائم الخطاب النبوي. التنقلات تتم بسلاسة إلى الكرد في بعض الجمل، بما يضيف لونًا شجيًا وحزنًا نورانيّا.

الجمل الموسيقية ليست متساوية الطول، بل تأتي وكأنها تستجيب للمعنى اللحظي للكلمة، وهذا يعطي إحساسًا بأن النص يفرض إيقاعه على الموسيقى، لا العكس.

عند لفظ اسم “محمد” يمدّ اللحن الكلمة بامتداد شرقي يفتح مسافة للتأمل، وكأنه يضع الاسم الشريف في فضاء موسيقي أوسع.

المدّ على الميم والحاء بجملة صاعدة تزيد نصف درجة عن التوقّع، لتشعّ هيبة الاسم. الذروة ليست صاخبة؛ ذروة مضبوطة تومض وتخمد بسرعة، فتترك أثر الوقار.

عند “يا رسول الله” يأتي الصعود اللحني المشرق، يعلو السلم ويستقر في ذروة نغمية، بما يعكس النداء والابتهال.

الكلمات ذات الطابع الدعائي أو الابتهالي تُعالج برجاء موسيقي متصاعد موجع ومتوسل، بينما الكلمات الوصفية الهادئة تُؤدى في مساحات أفقية أكثر هدوءًا.

اعتمد جمال سلامة على إيقاعات هادئة (أقرب إلى السماعي أو الوحدة البطيئة)، لكنها غير نمطية، بحيث تترك للمطربة مساحة في التطريب التعبيري. ولعب التوزيع الوتري والناي، والبيانو خصوصًا، دورًا في إحاطة الصوت بجو روحاني. لم يعتمد على كثافة الآلات، بل على الفراغات التي تعطي للنص مجالًا كي يُسمع بوضوح.

القوة في اللحن أنه يفتح مساحة للتجلي الروحي، أي أن السامع لا يشعر بأنه أمام عمل غنائي، بل أمام ابتهال جماعي متكامل. هنا يتجلى منهجه: المفردة ليست آلية لبناء جملة، بل روح يخرجها من النص.

وهكذا قدم سلامة في هذه الأنشودة نموذجًا فريدًا: لحن يخضع تمامًا للمعنى الروحي، لا للعرض الموسيقي. تكمن براعة اللحن في أنه يرتقي بالكلمة بدل أن يزخرفها، فكان العمل أقرب إلى صلاة مسموعة، لا مجرد أنشودة. بينما كان التوزيع الهارموني وترات ناعمة كسجادة صوتية، ناي يتسلّم التنهدات بين الجمل، وقانون يلمّح إلى المقام بلا زخرفة زائدة. فيما بقيت المساحات الصامتة جزءا من التوزيع: تترك للنص أن يتنفس وتمنع الإشباع اللحني من أن يطغى على الدعاء.

تكرار الجملة الموسيقية في اللحن كان موجودا، لكنّه تكرار بالمعنى: كل عودة تحمل تفصيلة جديدة في الدينامية أو الذروة.

كان أداء ياسمين الخيام متسقا وكأنها تغني من أوتار روحها الصوتية وليس حنجرتها، أداء خالٍ من الضغط. أثر التربية القرآنية من قبل والدها محمود خليل الحصري واضح في أدائها. الحروف الساكنة مسموعة، المدود مقدّرة لا مُسرفة، الاختيار المقامي يناسب خامتها ويضمن استقرار الطبقة عبر العمل. هذا يخلق قوسًا تنفسيًا: بداية ساكنة، تمدّد في الذكر، وقفة معنوية، ثم استئناف. تتسع قليلًا عند الذروة ثم تعود للحياد بسرعة؛ انضباط لا استعراض.

أما قلة التطريب المرسل في اللحن فهي متعمّدة: المعنى أولًا. الزخرفة تشرح لا تُبهر.

وهكذا يبدو اللحن باهرًا دون استعراض، عمل وجداني المعمار؛ بهاؤه من الصدق البنائي لذلك تتم استعادته بعد أكثر من نصف قرن في كل احتفال بالمولد النبوي الشريف.

https://www.google.com/search?q=%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%85%D9%8A%D9%86+%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9%85+%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF+%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84+%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87&oq=%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%85%D9%8A%D9%86+%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9%85&gs_lcrp=EgZjaHJvbWUqCQgCEEUYOxiABDIKCAAQABjjAhiABDIHCAEQLhiABDIJCAIQRRg7GIAEMgcIAxAAGIAEMgcIBBAAGIAEMgkIBRAAGB4YqQYyCQgGEAAYHhipBjIJCAcQABgeGKkGMgkICBAAGB4YqQYyCQgJEAAYHhipBtIBCjExMzM2ajBqMTWoAgiwAgHxBcLbEsDv0raE&sourceid=chrome&ie=UTF-8#fpstate=ive&vld=cid:43f28f35,vid:I56ZDOcxyYo,st:0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى