أقلام مختارة

هذا هو عدو الشعب

فيصل القاسم

حين كتب هنريك إبسن مسرحيته الشهيرة «عدو الشعب» عام 1882، لم يكن يعلم أنه يضع يده على جرحٍ إنسانيّ لن يندمل، وجريمة تتكرّر في كل زمان ومكان: معاقبة الشجعان الصادقين لأنهم تجرّأوا على قول الحقيقة في وجه عصابات شيطانية قذرة تتحكم بكل شيء.
المسرحية تبدو في ظاهرها بسيطة: طبيب يكتشف تلوّث مياه الحمامات الصحية في مدينته، يحاول تحذير الناس، فيُتهم بالخيانة ويُلاحق. لكن جوهر العمل أعمق بكثير: إنه صرخة ضد الأنظمة التي تخشى الحقيقة، والمجتمعات التي تفضّل الوهم والانقياد الأعمى وراء الدجالين والمحتالين، على الاعتراف بالخطأ ومواجهة المجرمين.
ماذا يحدث عندما تصبح الحقيقة تهمة؟ حين اكتشف الدكتور توماس ستوكمان أن مياه الحمامات ملوّثة، افترض أن كشف الحقيقة واجب أخلاقي لا نقاش فيه. لكنه صُدم حين تبيّن أن المجتمع من حوله ــ الصحافة، السلطات، التجار، وحتى عائلته ــ لا يريدون الحقيقة، لأن الاعتراف بها مكلف مادياً، ومحرج سياسياً، ومدمّر اقتصادياً. لم يكن الجدل حول صحة كلامه، بل حول «هل يجب قول الحقيقة أصلاً؟». وهنا تكمن المأساة: الحقيقة ليست محل نقاش، بل مجرد «إزعاج» يجب قمعه باسم «الصالح العام» الذي هو في الحقيقة ليس عاماً، بل هو مصلحة زُمرة منتفعة صغيرة تُلبس منافعها الضيقة ثوباً وطنياً شريفاً فضفاضاً، بينما الشرف والوطنية منها براء كما نرى اليوم في أكثر من مكان. ولطالما أضفى هؤلاء السفلة والأنذال على مشاريعهم القذرة طابعاً خيّراً زائفاً، ولطالما ادّعوا أنهم حماة الحق العام، بينما في الواقع هم مجرد ثلة وسخة من المنتفعين الفاسدين الذين يتاجرون بالبلاد والعباد من أجل مصلحتهم الخاصة.
في بلادنا، هذه المسرحية ليست مجرد انعكاس رمزي، بل هي تجسيد واقعي لحياة كل من قرروا أن يقولوا الحقيقة في وجه المتحكمين بالمجتمعات الذين لا يرون في الحقيقة إلا خيانة.
بين صوت الضمير وصوت القطيع، وفي قلب المسرحية يقف الدكتور ستوكمان، رجل وحيد في مواجهة مجتمع بأكمله. يقول جملته الخالدة: «أقوى رجل في العالم هو من يقف وحيدا» إنه موقف مأساوي ونبيل في آنٍ معاً. مأساوي لأن من يُفترض أن يكون بطلاً قومياً يُنبَذ ويُحاصر ويُشيطن ويُلاحق وتُشوه سمعته، ونبيل لأنه يُمثّل صوت الضمير حين يخرس الجميع.

اليوم، في عالمنا العربي، يقف كثيرون في موقع ستوكمان، وخاصة أولئك الذين يعارضون ويفضحون صفقات مشبوهة ومشاريع قذرة لا تخدم سوى أصحابها بينما تُلحق ضرراً هائلاً بمصالح وحياة الآخرين. جميع هؤلاء يتحولون إلى «أعداء للشعب» لأنهم لم ينحنوا للقطيع ومن يتلاعب به من وراء الستار، ولم يصفقوا للوهم. هل كل من قال الحقيقة عدو؟
مسرحية «عدو الشعب» لا تهاجم السلطة فقط، بل تفضح شراكة الجماهير في الكذب والتدليس وحتى التآمر على نفسها خدمة للذين يتاجرون بها وبقضاياها. الجموع التي تفضّل الكذب المريح على الصدق الموجع، هي من تصنع الطغاة والمتجبرين وتبرر الجريمة. إبسن يقول بصوتٍ صارخ: «المجتمع ليس دائماً على حق، بل قد يكون هو العدو الحقيقي للعقل والضمير وحتى لمصلحته” وهو أمر مُفجع جداً. وهذا بلا شك يجعلك لا تشتعل غضباً فقط حين ترى الحثالة والسفلة والأنذال والنصابين يعبثون بحياة الناس، ويحوّلونها إلى أدوات لخدمة مشاريعهم القذرة ومصالح أسيادهم، بل يجعلك تشعر بقهر أعظم، وغضب أشد حين ترى الناس أنفسهم خاضعين خانعين، يُساقون كالقطيع إلى الذبح، ويُستعملون وقوداً لمخططات المجرمين والسفاحين والمحتالين دون أن يرمش لهم جفن، وأحياناً بإرادتهم.
وهنا مكمن الألم في مجتمعاتنا: حين يتحوّل الشعب نفسه إلى أداة قمع باسم «الوطن»، أو «الدين»، أو «الطائفة» أو «الهوية»، فلا أحد ينجو من السحق والملاحقة والشيطنة والتخوين وشتى الاتهامات الأخرى بالعمالة والقوادة. ولطالما لوحق الشرفاء وتعرضوا لكل أنواع السهام المسمومة لا لأنهم خانوا الشعب، بل فقط لأنه حاولوا أن يلفتوا نظر الناس إلى جزء بسيط من الحقيقة القاتلة. كم هو مؤلم أن ترى الضحايا يتحالفون من المجرم ضد مصالحهم بشكل أكثر سوءاً من المصابين بعقدة ستوكهولم. لا تصدّق كل من يُسمّى «عدو الشعب». في زمن تسوده الشعارات، وتمتزج فيه الحقيقة بالدعاية المغرضة، تصبح تهمة «عدو الشعب» وسام شرف لمن يجرؤ على قول ما لا يُقال.
كم نحن في حاجة اليوم إلى رجال ونساء مثل الدكتور ستوكمان، يعرفون أن قول الحقيقة لا يجعلهم محبوبين، لكنه يجعلهم أحياءً بحق. ولعلّ ما نحتاجه أكثر في هذا الزمن الرديء، ليس أن نكون «مع الشعب» دوماً، بل أن نكون مع الضمير والحق والحقيقة، حتى لو وقفنا وحدنا. أخيراً فكر ملياً قبل أن تنخدع بعبارة «عدو الشعب»، ودائماً اسأل نفسك مرة أخرى: من هو عدو الشعب الحقيقي، هل هو الذي يشتعل قهراً ومعارضة في وجه العابثين بحياة ومصالح الناس ويحاول صونها من النصابين والمغرضين، أم تلك العصابات والمنتفعون الصغار الذين يصورون مصالحهم ومشاريعهم ومشاريع أسيادهم القذرة الخاصة على أنها مصلحة عامة ويتسترون بلباس الدين أو الطائفة والصالح العام، بينما لا تهمهم سوى مصالحهم، وهم في الحقيقة ألد أعداء الشعب؟
و«لي فيه الفز كيقفز»، كما يقول المغاربة، و«اللي فيه مسلة بتنغزو»، كما يقول السوريون.

كاتب واعلامي سوري
[email protected]

عن صحيفة القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى