من المطلوبية إلى الرئاسة: مستقبل سوريا بين البراغماتية الدولية والتحوّل السلوكي
جمال دملج
من كان يتخيّل أن يتحوّل أبو محمد الجولاني – أحد أبرز الوجوه المصنّفة إرهابيًا في قائمة وزارة الخارجية الأميركية – إلى رئيس لسوريا، بل وأن يجالس أسماء وازنة مثل روبرت فورد ورئيسه دونالد ترامب؟
التاريخ لم يعد يُصدم، والسياسة لم تعد تفاجئ، لكنّ القصة هذه المرّة، في ضوء ما كشف عنه السفير الأميركي السابق في دمشق، روبرت فورد، تتجاوز حدود “الواقعي” إلى تخوم “ما بعد الواقعية”.
الجولاني… والشرع
حين يتحدّث فورد عن سلسلة من اللقاءات بدأت عام 2023 مع من كان يُعرف باسم أبو محمد الجولاني، قائد “هيئة تحرير الشام”، فالأمر لا يمكن عزله عن المسار الغربي المتعمّد لـ”تأهيل الخصوم” حين تقتضي الضرورة. فورد لم يكن مجرد وسيط، بل كان جزءًا من فريق أوروبي اختارته منظمة بريطانية غير حكومية لحل النزاعات، عملت بصمت على إخراج الجولاني من عالم الإرهاب وإدخاله في السياسة.
هنا لا بد من طرح تساؤلات مشروعة:
كيف انتقل رجل مطلوب برأسه مقابل 10 ملايين دولار إلى رجل دولة يُستقبل في دمشق وفي الرياض؟
هل هذا تحوّل سلوكي ذاتي؟ أم أن الضغوط الغربية وضعت سيناريو لإعادة تدوير الجولاني ضمن صفقة إقليمية أكبر؟
وما موقع الشعب السوري من كل هذا؟
هل تتغيّر النفسيات فعلًا؟
السؤال الجوهري يتعلّق بإمكانية تحوّل “الإرهابي” إلى “السياسي العاقل”.
وفقًا للأدبيات النفسية، يمكن للإنسان أن يغيّر سلوكه تحت تأثير البيئة الجديدة، خاصة إذا كانت العوامل التحفيزية (السلطة، الشرعية، الحصانة) تفوق دافعية العنف القديمة.
علم النفس التحويلي يقدّم فرضيات تقول إن “الهوية القتالية” ليست بالضرورة نهائية، وأن الفرد الذي ينخرط في العنف المسلّح قد يكون مدفوعًا بأسباب ظرفية أكثر منها إيديولوجية.
لكن التحوّل السلوكي يظل مشروطًا بــ:
المراجعة الفكرية، التي لم تُعلن بعد في حالة الشرع.
الاعتراف بالضحايا، وهو أمر غير وارد حاليًا.
بنية قانونية تضمن المحاسبة، وهي مفقودة في السياق السوري.
هل المستقبل مشرق؟
من الواضح أن الغرب – وعلى رأسه الولايات المتحدة – اختار البراغماتية مجددًا.
لم ينجح مشروع إسقاط النظام السوري التقليدي، فجاءت التجربة الجديدة: الإتيان بشخصية من “الهامش الجهادي”، تأهيلها، ثم إدماجها في النظام، ليظهر وكأنّ “الإصلاح السياسي” تحقق… على يد من كان رمزا للفوضى ذاتها.
هذه ليست المرة الأولى التي يُعاد فيها إنتاج العنف ضمن قوالب شرعية. سبق أن رأينا هذا النموذج في العراق، وفي أفغانستان، وها هو الآن يُختبر في سوريا.
لكن النتيجة، للأسف، ليست بالضرورة استقرارًا. فحين يُقصى المجتمع المدني، وتُهمّش النخب الوطنية، ويتم تبييض التاريخ الدموي دون مصالحة شاملة، يكون الثمن طويل الأمد: هشاشة، وشك، وصراعات تحت الرماد.
في الخلاصة، إن ما كشفه فورد ليس مجرد معلومة، بل مؤشر عميق على تحوّلات كبرى في المشهد السوري.
الرئيس أحمد الشرع – بصفته الجديدة – هو عنوان مرحلة انتقالية مشبوهة، قد تحمل بذور الاستقرار كما قد تؤسس لصراع جديد.
وما بين السياسة والنفس، تكمن مفارقة كبرى: هل يتغيّر الإنسان أم فقط يتكيّف؟ وهل يُعقل أن يتحوّل الجلاد إلى قائد من دون أن يحاسب على ماضيه؟
الأيام وحدها ستكشف الحقيقة، لكن التاريخ لن يُغلق ملفاته بسهولة.
كاتب لبناني