أقلام يورابيا

لبنان المؤجَّل إلى 2026… وإسرائيل التي لا تنتظر!

جمال دملج

بينما يترنّح الداخل اللبناني فوق شفير الإفلاس الكامل، ماليًا وسياسيًا وسياديًا، يبدو أن حسابات القوى الفاعلة على الساحة الدولية، لا سيّما إسرائيل، باتت أكثر استعجالًا من قدرة لبنان على “تأجيل” تسوية مشكلاته البنيوية حتى موعد الانتخابات البرلمانية في أيّار 2026.

في هذا السياق، جاءت الغارات التي شنّها الطيران الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت، قبل يومين، لتدشّن على ما يبدو مرحلة جديدة من الضغط الميداني المباشر ضد محاولات “حزب الله” إعادة تشكيل قدراته العسكرية، وخصوصًا في مجال تصنيع المسيّرات القتالية، في تحدٍ مباشر للقرارات الدولية التي تُلزم الدولة اللبنانية بنزع سلاح الميليشيات غير الشرعية في البلد.

خيار التأجيل اللبناني

لم تعد خافيةً على أحد في الأوساط الدبلوماسية الغربية المؤشرات المتراكمة التي توحي بأن لبنان الرسمي، سواء بوعيٍ منه أو تحت وطأة العجز السياسي، يتّجه نحو اعتماد سياسة “تدوير الزوايا” وتأجيل الاستحقاقات الكبرى إلى ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة. وتُبرَّر هذه السياسة، في الأروقة الضيقة، بالحاجة إلى إنضاج تسوية وطنية شاملة قد تُمكِّن القوى الدستورية من استعادة الحدّ الأدنى من التوازن المؤسساتي، تمهيدًا لتطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، لا سيّما القرار 1701 والقرارات التي سبقته وتلته في آنٍ معًا.

غير أن هذا النهج، الذي يقوم على افتراض إمكانية “ضبط” حزب الله ضمن الإطار الوطني في مرحلة لاحقة، لا يبدو مقنعًا على ضفتي النزاع الإقليمي، إذ تراه إسرائيل محض مراوغة إضافية هدفها إتاحة مزيد من الوقت للحزب كي يُعيد بناء ترسانته بأساليب ربما تكون أكثر تطورًا.

الضاحية في مرمى الطائرات

الغارة التي استهدفت الضاحية الجنوبية، وتحديدًا منشآت مرتبطة بتطوير طائرات مسيّرة قتالية، لا يمكن قراءتها فقط بوصفها حدثًا ميدانيًا عابرًا أو ردًا موضعيًا على تهديد مباشر، بل هي رسالة صريحة من إسرائيل مفادها أن فترة الصبر الاستراتيجي قد انتهت، وأن محاولات طهران عبر “حزب الله” لفرض معادلات ردع جديدة على الجبهة الشمالية لم تعد تُؤخذ على محمل التسليم في تل أبيب.

وبحسب مصادر أمنية غربية، فإن الضربة الأخيرة استهدفت ورشة تطوير تقع ضمن مجمّع صناعي مُموّه داخل منطقة مكتظة سكانيًا، كان يُعتقد أنه يؤمّن بيئة آمنة لإنتاج طائرات انتحارية متطوّرة ذات قدرات هجومية دقيقة، جرى اختبار بعضها في اليمن وسوريا، وقد يكون الهدف من إعادة إنتاجها في لبنان استخدامها في أيّ مواجهة مستقبلية مع إسرائيل، ضمن مبدأ “الردع المتراكم”.

المجتمع الدولي بين الصرامة والتراخي

على الرغم من استمرار الضغط الأميركي والأوروبي على الدولة اللبنانية لتطبيق القرار 1701 بشكل كامل، بما يشمل حصر السلاح بيد الشرعية اللبنانية، فإن ثمة إشارات واضحة إلى ازدواجية في المقاربة الدولية؛ إذ لا تزال بعض الأطراف الغربية تعتبر أن انتزاع سلاح حزب الله بالقوة قد يؤدّي إلى تفجير الوضع اللبناني من الداخل، ويفتح الباب أمام سيناريوهات شديدة الخطورة في ظل الانهيار الاقتصادي غير المسبوق.

هذا التردّد الدولي، المُبرَّر أحيانًا بذرائع “الواقعية السياسية”، يتقاطع مع غياب القرار السيادي اللبناني، ما يترك هامشًا واسعًا لإسرائيل كي تُعيد هندسة قواعد الاشتباك وفق مصالحها الأمنية المباشرة، ولو على حساب الأعراف الدبلوماسية أو احترام السيادة اللبنانية شكليًا.

إعادة تعريف قواعد الاشتباك

منذ العام 2006، تشكّلت بين “حزب الله” وإسرائيل معادلة ضمنية عنوانها: “الردع المتبادل”، غير أن تلك المعادلة بدأت تتآكل تدريجيًا منذ التدخل العسكري للحزب في سوريا، وبالتالي، منذ انخراطه في “مساندة غزة” عام 2023، ثم مع دخول المسيّرات كعنصر حاسم في المواجهات غير المتماثلة. فالحزب الذي يستند إلى خبرات تقنية متنامية مصدرها الحرس الثوري الإيراني، لم يخفِ طموحه إلى نقل تجربة الحوثيين في اليمن إلى الجنوب اللبناني، الأمر الذي تعتبره إسرائيل خطًا أحمر يستدعي الضربات الاستباقية.

ولعلّ الرسالة الأهم في توقيت الغارة الأخيرة هي أن إسرائيل ترى في استحقاق 2026 اللبناني أمرًا داخليًا لا يعنيها، وأن أمنها القومي لا ينتظر الانتخابات، ولا يراهن على “ترتيبات محتملة” في بلد يعيش تحت وطأة انهيار سياسي ومؤسساتي متواصل.

إلى أين يتجه لبنان؟

في ضوء هذه المعطيات، يواجه لبنان مفترقًا دقيقًا: فإما أن يُعيد تثبيت موقعه كدولة ذات سيادة مسؤولة عن تنفيذ التزاماتها الدولية، أو أن يتحوّل تدريجيًا إلى مسرح صراع إقليمي مفتوح، لا يملك فيه من أمره شيئًا.

وإذا كان من الواقعي أن نُقرّ بصعوبة تفكيك البنية المسلحة لـ”حزب الله” بين ليلة وضحاها، فإن من الضروري أيضًا عدم استسهال اعتماد خيار التأجيل، إذ إن الثمن هذه المرة قد لا يكون سياسيًا أو معنويًا فحسب، بل عسكريًا وماديًا ومدنيًا، وهو ما بدأت إسرائيل بالفعل بتسديد دفعاته الأولى في الضاحية الجنوبية، وبالعيار الثقيل.

إعلامي وكاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى