أقلام يورابيا

عريبي والشيخ وبلخياط والجميري

كرم نعمة

لو وضعنا هذا العنوان قبل مقتل حارس البوابة بين مشرق ومغرب الوطن العربي وانكسار ما كان يسمى سطوة المركز على الأطراف في الثقافة العربية، لوجدنا عسر التقبل والفهم معا آنذاك، فما الذي يجمع الموسيقار الليبي حسن عريبي بالفنان البحريني خالد الشيخ وما الذي يقرّب بين غناء المغربي عبدالهادي بلخياط والبحريني أحمد الجميري؟

في حقيقة الأمر كان وما زال من يجمع بينهم وحدة حسية عصية على الانكسار، أريد لها أن تتجزأ فنيا وفق شرط عليك أن تمر بالقاهرة قبل أن يتواصل فن المغرب والمشرق العربييْن، عندما كانت الثقافة السائدة تلعب دور الجمارك، ولم تترك الأغنية تمضي بلا تأشيرة.

وعندما أجمعُ هذه الأسماء الفنية من ليبيا والمغرب والبحرين اليوم، لا أقتبس مثالا موسيقا مما نعيشه في الفضاء المفتوح، بل من خمسة عقود إلى الوراء، ولو تسنى لقصيدة “المنفرجة” لابن النحوي التوزري التونسي، التي لحنها الليبي حسن عريبي وأداها المغربي عبدالهادي بلخياط في ثمانينات القرن الماضي، وقصيدة “شويخ من أرض مكناس” التي كتبها أبو الحسن الششتري ولحنها البحريني خالد الشيخ وأدها ابن بلده أحمد الجميري، أن تتنقلا بحرية آنذاك لشهدنا في وقت مبكر انكسار سطوة المركز على الأطراف.

لست متأكدا أيهما أسبق في لحن القصيدتين ومما إذا كان الفنان البحريني قد استمع إلى لحن الموسيقار الليبي، مع أنني أدرك الثقافة الموسيقية العالية لخالد الشيخ الذي التقيته في بغداد في ثمانينات القرن الماضي.

لكن هناك وحدة لحنية مشبعة بالطقوس الصوفية تجمع اللحنين، فبينما أبقى عريبي على إيقاع إنشادي في لحن المنفرجة على مقام النهاوند، حتى يدخل بالإنشاد الغنائي بإيقاع الأيوب، ثم تبدأ انتقالات الغناء على مقام الكرد، ويجعل المستمع يعيش مع صولو الناي في مقاطع أخرى تنتهي برفع الأذان بسحر مقام الحجاز سيد الإنشاد، يستثمر خالد الشيخ مقام الكرد ويذهب قليلا إلى العجم في قصيدة “شويخ” ويكسر بذلك الصرامة الموسيقية في لحن القصيدة باستخدام إيقاع خليجي سريع جعل هذه الأغنية تدخل الأفئدة قبل الأسماع منذ ثمانينات القرن الماضي.

ما بين قصيدتي ابن النحوي والششتري الأندلسييْن المغاربيين 177 سنة، وما بين الراحل عريبي والشيخ في اللحنين اللذين ظهرا في ثمانينات القرن الماضي بضع سنوات، لكن ثمة روحية تجعل من غناءيْ المشرق والمغرب يمتزجان في آلية تعبيرية لا تكاد تميز إن كان الأداء في ليبيا أو المغرب أو البحرين.

هناك أبيات في قصيدتي “المنفرجة” و “شويخ من أرض مكناس” تمضي بروح واحدة وبدلالة تبدو الحاجة ماسة إليها اليوم في زمن طائفي أخرق، فابن النحوي يقول في قصيدة “المنفرجة”: صلوَاتُ اللَهِ عَلى المَهدِيِّ/ الهادِي الناسِ إِلى النَّهَجِ/ وَأَبي بكرٍ في سِيرَتِهِ/ وَلِسَانِ مَقَالَتِهِ اللَّهِجِ/ وَأَبي حَفصٍ وَكَرَامَتِهِ/ في قِصةِ سارِيَةِ الخُلُجِ/ وَأَبي عَمرٍ وَذِي النُّورَينِ/ السُتَحيي المستَحيَا البَهِجِ/ وَأَبي حَسَنٍ في العِلمِ إذا/ وافى بِسَحائِبِهِ الخُلُجِ/ وعلى السِّبْطَيْنِ وأمِّهِما/ وجميعِ الآلِ بمُنْدَرِجِ.

فيما يكتب الششتري: وكذاك اشتغالوا بالصلاة على محمد/ والرضا عن وزيروا أبي بكر الممجد/ وعمر قائل الحق وشهيد كل مشهد/ وعلي مفني الأرجاس إذا يضرب ما يثني.

هناك فخامة وتوهج لحني ما بين الليبي عريبي والبحريني الشيخ، فيما ظل أداء المغربي بلخياط والبحريني الجميري بعد كل تلك السنوات درسا غنائيا عميقا في التعبير عن أغنية عربية واحدة سواء كانت في المغرب أو الخليج العربي.

لكن ما فعله عريبي والشيخ، وبلخياط والجميري، بقي محصورًا في الأرشيف العاطفي، ولم يتحوّل إلى ظاهرة. لم تتجرأ المؤسسات الثقافية على قراءته بوصفه مثالًا لما يمكن أن تكون عليه الأغنية العربية قبل أن تُطلق من قيد المركز والأطراف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى