في لحظة فارقة من تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وبينما يواصل الفلسطينيون في غزة مواجهة آلة حرب إسرائيلية غير مسبوقة وعزلة دولية لاسرائيل، خرج رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس برسالة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، تحمل في طيّاتها ما لا يمكن وصفه إلا بخطة استسلام سياسي كاملة، موقّعة بيد من يدّعي تمثيل الشعب الفلسطيني.
الرسالة التي كشفت عنها الحكومة الفرنسية مؤخرا لم تكن مجرد بيان دبلوماسي، بل كانت بمثابة إعلان نواياٍ لتصفية المقاومة الفلسطينية، عبر الدعوة إلى نزع سلاح حماس، بل والمطالبة بنشر قوات دولية وعربية في غزة بإشراف السلطة الفلسطينية.
منذ متى يتحول زعيم سياسي، يُفترض أنه يقود حركة تحرر وطني، إلى المطالِب الأول بتجريد شعبه من سلاحه وتسليم المقاومة لقوات أمن تعمل تحت سقف الاحتلال نفسه؟ لا يمكن فهم هذه الرسالة بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي الضاغط، الذي يحاول إعادة تشكيل المشهد الفلسطيني وفق معادلات أمنية إسرائيلية ومصالح خليجية ـ غربية متقاطعة.
محمود عباس، الذي لم يخضع لصندوق الاقتراع منذ عام 2006، يستغل لحظة نزيف ودمار في غزة ليقايض الدم الفلسطيني بمكان في “ما بعد الحرب”، حتى لو كان ذلك على حساب مشروع وطني تقوده المقاومة منذ عقود.
أما حديثه عن “انتخابات”، فهو مجرّد واجهة دعائية لتجميل مشروعه السلطوي، الذي لم يسمح بإجرائها حتى في أوقات السلم النسبي.
الدور السعودي لا يقل خطورة. فبحسب تقارير متعددة، مارست المملكة ضغطًا مباشرًا على عباس لتعيين حسين الشيخ نائبًا له، في إطار ترتيب المشهد الفلسطيني لما بعد غزة، بما يخدم أجندة خليجية مفادها: “حماس يجب أن تُزاح، والسلطة يجب أن تُعوّض”.
ما يجري ليس مجرد “تحديث سياسي”، بل محاولة لإعادة صياغة القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى ملف أمني قابل للخصخصة والتدويل، تُدار فيه غزة من خلال لجنة تكنوقراطية أو قوات عربية/دولية، على الطريقة اللبنانية أو البوسنية.
وكما هو متوقع، فإن السعودية تتصدر مشهد “الاعتدال” الذي يروّج لمثل هذا السيناريو، بالتوازي مع خطوات التطبيع الإقليمي الزاحف.
عباس يتحدث عن دولة فلسطينية بلا سلاح، ويطمئن الجميع بأن الدولة الجديدة “لن تكون عسكرية”، في تنازل مجاني لم تطلبه حتى إسرائيل بهذه السرعة.
لكن أي دولة هذه التي تطالب بها وأنت تتبنّى شروط العدو الأمني قبل ولادتها؟ دولة تحت رقابة دولية، بلا مقاومة، بلا تعددية سياسية، وببرنامج سياسي موحّد تُقصى منه أي قوى مخالفة؟
في الوقت الذي يعترف فيه العالم (أو جزء منه) بدولة فلسطينية، يستغل عباس هذا الزخم لتحويل الاعتراف السياسي إلى تصفية للمقاومة وتمكين سلطوي على حساب الشعب. إنه اعتراف مشروط بدفن آخر أدوات الضغط الفلسطيني: المقاومة المسلحة.
اللافت أن رسالة عباس – التي وُصفت بأنها تحمل “التزامات غير مسبوقة” – خلت تمامًا من أي مطالبة بمحاسبة إسرائيل على سبعة عقود من الاحتلال والتطهير العرقي والاستيطان وجرائم الحرب المتواصلة، سواء في غزة أو في الضفة الغربية أو القدس. لم يرد فيها ذكر للمجازر ، ولا للاغتيالات، ولا للهجمات المتكررة على مدن الضففة الغربية، ولا لمئات آلاف المعتقلين، ولا لعودة اللاجئين، ولا لمشروع الاستيطان الذي التهم الأرض وحوّل “حل الدولتين” إلى نكتة باهتة.
وكأن عباس أراد أن يقدّم “عرض تسوية” بلا ثمن حقيقي، ليس فقط بإدانة المقاومة والمطالبة بنزع سلاحها، بل أيضًا بشطب الجرائم الإسرائيلية من السجل السياسي الفلسطيني، مقابل وعود غامضة بالدعم الدولي ووعود بإجراء انتخابات لا يؤمن بها أحد.
هذا التجاهل المتعمد لا يمكن تفسيره إلا في سياق التواطؤ السياسي، أو الرغبة في إعادة هندسة السردية الفلسطينية بما يتماشى مع شروط الاحتلال، لا مع معاناة الضحايا. وهو ما يُحوّل القيادة الفلسطينية من حامل سياسي لقضية تحرر، إلى وسيط إداري يعمل على تبييض صفحة إسرائيل من الجرائم التي لم تتوقف يوماً.
المؤتمر المرتقب في نيويورك، بقيادة فرنسا والسعودية، ليس سوى تتويج لمحاولات تطويع الحالة الفلسطينية. مؤتمر يراد له أن يضع حدًا للحرب، ربما ولكن نشك بذلك، ولكن من خلال إضفاء شرعية على ترتيبات سياسية وأمنية لا تعبّر عن الشارع الفلسطيني ولا تلتزم بثوابته.
رسالة عباس، التي وُجّهت أيضًا لولي العهد محمد بن سلمان، تبدو وكأنها خطاب قبول شروط الاستسلام النهائي، مقدَّم نيابة عن “شعب” لم يُستشَر، ولم يُمنَح حق الاعتراض.
أما حماس، بغض النظر عن تقييم موقفها السياسي، فهي لا تزال تمثل شريحة واسعة من الفلسطينيين، وقد جاءت إلى الحكم عبر انتخابات نزيهة لم يجرؤ عباس على تكرارها منذ نحو عقدين.
ليس غريبًا أن تندد حماس بالرسالة، وتصف عباس بأنه لا يملك شرعية الحديث عن سلاح المقاومة. والغريب أن بعض العواصم الغربية والخليجية تروّج لعباس كممثل شرعي ووحيد، بينما يتجاهلون أنه يمثل سلطة مأزومة، مفصولة عن الشعب، ومنتهية الصلاحية سياسياً وأخلاقياً.
إن مشروع عباس – السعودي لا يمثل الدولة الفلسطينية المستقلة، بل يمثل نموذج “سلطة بدون سيادة، وراية بلا مقاومة، وشعب مقموع باسم الواقعية السياسية”.
في زمن تهاوت فيه المبادئ تحت ضغط التحالفات، يبقى الشعب الفلسطيني وحده من يدفع الثمن… ومن يقرر مصيره، لا من يكتبه له الآخرون في رسائل سرية ومؤتمرات نيويوركية.