أقلام مختارة

صراع المعادن النادرة بين واشنطن وبكين

حسين مجدوبي

في خطوة قد تبدو مفاجئة، ولكنها مرتقبة، قررت الصين تشديد الرقابة على المعادن النادرة، ما أثار غضب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مهددا برسوم جمركية تصل الى 130%. هذا الحادث هو فصل من الصراع الأمريكي – الصيني لزعامة العالم، ويبقى في الوقت ذاته فصل يبرز أهمية هذه المعادن الآن ومستقبلا، كما كان عليه الأمر مع الفحم الحجري في السابق والنفط حاليا.
يعرف عن الصين افتقادها للكثير من موارد الطاقة والمعادن، إذ يكفي أنها تحولت إلى المستورد الأول للنفط والغاز، بسبب كثافتها السكانية التي تتجاوز مليار و416 مليون نسمة، ثم إنتاجها الضخم في شتى المجالات الذي يحتاج للطاقة. لكن العالم تفاجأ، كيف أن هذا البلد أصبح المتحكم في المعادن النادرة على حساب الغرب، خاصة الولايات المتحدة. ولممارسة هذا التحكم، قررت بكين خلال هذا الشهر فرض الحصول المسبق على تراخيص الصادرات من المعادن النادرة والتقنيات المرتبطة بها، بما في ذلك المغناطيسات وتكنولوجيا المعالجة، سواء بالنسبة للمواد أو المعدات أو براءات الاختراع. هذا ما جعل ترامب يهدد بفرض تلك الرسومات الخيالية، وإلغاء الاجتماع الذي كان مقررا مع نظيره الصيني شي جينغ بينغ، علاوة على تشجيع سياسة الاستثمار في استخراج المعادن النادرة في الولايات المتحدة، وباقي دول العالم الحليفة والشريكة لواشنطن.
عمليا، إن المعادن النادرة تضم ما بين 15 و17 عنصراً من مجموعة اللانثانيدات (اللانثانوم، السيريوم، البراسيوديميوم، النيوديميوم، البروميثيوم، الساماريوم، الأوروبيوم، الجادولينيوم، التيربيوم، الديسبروسيوم، الهولميوم، الإربيوم، الثوليوم، الإيتربيوم واللوتيسيوم)، بالإضافة إلى السكانديوم واليوتريوم، التي لها خصائص كيميائية مشابهة، وهذا من الخصائص المثيرة لهذه المعادن. ولعل كلمة نادرة لا تعني بالضرورة ندرتها في الطبيعة، فقد يتم العثور عليها في مختلف دول العالم، ولكن يبقى الإشكال هو صعوبة العثور عليها في وضع يجعلها قابلة للاستغلال اقتصادياً بشكل مباشر، كما يحدث مع الفحم الحجري ونسبيا النفط، بل توجد صعوبة كبيرة في استخراجها وتنقيتها. ذلك أن استخراج ومعالجة العناصر النادرة عملية معقدة ومرتفعة التكلفة، كما أن لها تأثيرات بيئية ملموسة. ويرجع ذلك إلى أن هذه العناصر غالبا ما تكون منتشرة بكميات صغيرة ومختلطة مع معادن أخرى، وأحيانا مع مواد مشعة. وتعد عملية السيطرة على التلوث وتطوير عمليات أكثر استدامة، بما في ذلك طرق إعادة تدوير النفايات، أحد التحديات الكبرى في معالجة هذه المعادن. هذا يعني أن معظم دول العالم خاصة الفقيرة، وإن توفرت على هذه المعادن ستكون رهينة تكنولوجيا الدول الكبرى، لاستخراجها مثلما حدث مع النفط والغاز، إذ لم تتمكن الدول ومنها العربية الاستغلال من دون تكنولوجيا غربية.
ولفهم أعمق لأهمية هذه المعادن، سنقدم أمثلة من الاستعمال العسكري والمدني. علاقة بالمجال العسكري تُستعمل في الصناعات العسكرية المتقدمة والمستقبلية، ومنها نظم الاتصالات التي تعد عصب التنسيق بين مختلف الشعب العسكرية، ثم في أجهزة تحديد المدى بالليزر، وفي الأنظمة الفضائية، لاسيما في كل سباقات السيطرة على الفضاء، وكذلك سبائك الأسلحة ومحركات الطائرات المقاتلة والصواريخ الموجهة، وتدخل أيضا في تصنيع السيارات والمركبات العسكرية ذات البطاريات الكهربائية. وفي المجال المدني تدخل في تصنيع الهواتف الذكية التي تكتسب دورا في الحياة البشرية وفي أجهزة الكمبيوتر وفي الشاشات اللمسية وكذلك الرقائق الإلكترونية، والأجهزة الطبية (مثل أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي) وأقراص الحواسيب، توربينات الرياح والألواح الشمسية، أي الطاقة المتجددة.
ويتخذ قرار الصين بشأن المعادن النادرة منحى جيوسياسيا محضا، ذلك أن القرار يريد التحكم في سلسلة الإنتاج العالمية لأشباه الموصلات والطاقة النظيفة والدفاع، ويهدف القرار إلى تعزيز النفوذ الصيني ومنع التنويع خارج أراضيها، من دون الوصول إلى قطع الإمدادات بشكل كامل، عن أي دولة في حاجة إلى هذه المعادن. ويوجد تأويل واحد للقرار الصيني، يمكن تفسير الخطوة الصينية على أنها ضغط واستعداد استراتيجي طويل الأمد، واستياء من القيود الغربية. من جانبها، لا تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي، بل تعمل على زيادة الإنتاج المحلي وإنشاء احتياطيات خاصة بها، لتقليل الاعتماد على الصين، غير أن هذه المهمة صعبة الآن بحكم سيطرة بكين على أكثر من 70% من الإنتاج العالمي. وعموما، تحولت المعادن النادرة من مسألة تقنية صناعية إلى عنوان بارز للتنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين؛ وأصبح جليا أن ما يقع الآن من مواجهة صينية-أمريكية سيؤثر على وتيرة التطور التكنولوجي العالمي وتوازن القوى في العقد المقبل أساسا. وهذا الصراع هو واجهة رئيسية للتنافس الحاصل بين الولايات المتحدة، التي تريد أن تبقى في ريادة العالم، والصين التي ترغب في تولي عرش العالم خلفا للأمريكيين. وحتى بداية القرن الحالي، لم تكن المعادن النادرة تحتل هذه المكانة المحورية في الاقتصاد والتصنيع العسكري، لهذا لم يمنحها الباحثون في مراكز التفكير الاستراتيجي حيزا مهما من قبل، أما الآن فلا يمكن فهم التطورات الجيوسياسية من دون هذه المعادن النادرة التي لا يمكن تطوير صناعة عسكرية ومدنية من الجيل المقبل من دونها.
في الماضي، عملت واشنطن على عدم سيطرة الاتحاد السوفييتي على إنتاج النفط العالمي، وربطت النفط بالدولار، ووفرت الحماية لدول الخليج العربي، أما الآن فيواجه صناع القرار في البيت الأبيض معضلة مختلفة مفادها، أن هذه المعادن يتم إنتاجها في الصين أكثر من مناطق أخرى في العالم، الأمر الذي يجعل مواجهة الصين والحد من تأثيرها على هذه المعادن عملية صعبة إن لم تكن مستحيلة.
وإذا تأملنا هذه الأرقام التي تقول، إن الصين تتحكم في حوالي 70% من إنتاج المعادن النادرة في العالم، وتملك نحو 90% من قدرات المعالجة والتكرير، وقتها ندرك القلق الحقيقي لواشنطن، لأنها تخوض حربا جيوسياسية خاسرة منذ البداية ضد الصين. وهذه من المرات القليلة في تاريخ الولايات المتحدة التي تخوض فيها حربا خاسرة.

كاتب مغربي

عن صحيفة القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى