بين الديبلوماسية الهادئة وسباق التسلّح: قراءة في آفاق العلاقات الروسية ـ الغربية
جمال دملج

في خضمّ التوتّرات المتزايدة بين موسكو والعواصم الغربية، عاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى واجهة المشهد الدولي بإعلانٍ صاخبٍ عن نجاح تجربة صاروخ “بوريفيستنيك” – صاروخ كروز عابر للقارات يعمل بالدفع النووي – واصفًا إياه بأنّه “سلاح لا مثيل له في العالم”.
لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه اليوم لا يقتصر على طبيعة هذا السلاح، بل يمتدّ إلى مغزى التوقيت وأبعاده في ميزان العلاقات الروسية – الغربية، وما إذا كان هذا التطوّر يُعبّر عن سياسة ردع محسوبة أم عن تمهيدٍ لسباق تسلّحٍ نووي جديد يهدّد استقرار النظام الدولي.
من “العقيدة البوتينية” إلى “مرحلة الردع المفتوح”
حين استخدمتُ شخصيًا – في تقريرٍ تلفزيوني بُثَّ على شاشة قناة أبوظبي الفضائية بتاريخ 31 كانون الأول/ديسمبر 2000 – مصطلح “العقيدة البوتينية” لوصف التحوّلات البنيوية التي أدخلها فلاديمير بوتين على نظام الحُكم في الكرملين خلال عامه الأول في الرئاسة، كنتُ أستشرف ملامح نهجٍ سياسي جديد يقوم على مبدأين:
الأول، إعادة ترميم الدولة الروسية من الداخل بعد عقدٍ من الارتباك الذي أعقب تفكك الاتحاد السوفياتي.
والثاني، فرض الاعتراف الدولي بروسيا كقوة عظمى مستقلة ترفض التبعية للنظام الأحادي القطبية الذي رسّخته الولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي.
واليوم، بعد مرور ربع قرن على ذلك التقدير المبكر، يبدو أنّ “البوتينية” قد دخلت مرحلتها الأكثر حسمًا: مرحلة الردع المفتوح، حيث تُستخدم القدرات الاستراتيجية ليس فقط كأداة دفاع، بل أيضًا كورقة تفاوض دبلوماسية ترسم حدود الممكن في العلاقات مع الغرب.
الصاروخ النووي الجديد: عرض قوة أم رسالة سياسية؟
تُظهر تفاصيل الإعلان الروسي أنّ الاختبار لم يكن مجرّد حدثٍ تقني أو عسكري. فالصاروخ الذي أُطلق عليه اسم “بوريفيستنيك” – أي “طائر العاصفة” بالروسية – قطع أكثر من 14 ألف كيلومتر في رحلة استغرقت 15 ساعة متواصلة، محققًا نجاحًا كاملاً في جميع المناورات الرأسية والأفقية.
يمتاز الصاروخ بقدرته على التحليق على ارتفاعات منخفضة جدًا وبمسارات غير متوقعة، ما يجعله عمليًا عصيًّا على الرادارات وأنظمة الدفاع الجوي الغربية. وهو قادر على البقاء في الجوّ لساعات طويلة بانتظار أمر الهجوم، ما يعني أن روسيا باتت تملك سلاحًا ردعيًا ذا مدى غير محدود تقريبًا.
وفي حين تصرّ موسكو على أنّ هذا التطوّر يأتي في إطار “الدفاع عن أمنها القومي”، يرى خبراء غربيون أنّه نقطة تحوّل خطيرة في ميزان القوى، قد تدفع حلف شمال الأطلسي إلى تسريع برامج التسلّح والتحديث النووي، لا سيّما في ظلّ تعثّر قنوات الحوار السياسي بشأن الحرب الأوكرانية.
منطق الردع بعد انهيار المعاهدات
تاريخيًا، شكّلت معاهدات الحدّ من الأسلحة النووية – مثل معاهدة الحدّ من أنظمة الدفاع الصاروخي (ABM) التي انسحبت منها واشنطن عام 2001 – أساسًا للاستقرار الاستراتيجي بين القوتين العظميين. لكنّ انهيار تلك المعاهدات تباعًا منذ مطلع القرن جعل الردع النووي يدخل في مرحلة فوضى غير مسبوقة.
من وجهة نظر الكرملين، فإنّ انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقيات الحدّ من التسلّح وتوسّع الناتو شرقًا كانا بمثابة إعلان غير رسمي لنهاية توازن الرعب الذي حفظ الاستقرار لعقود. ومنذ ذلك الحين، شرعت موسكو في تطوير منظومات متقدّمة مثل “أفانغارد” و”كينجال” و”تسيركون”، وصولًا إلى “بوريفيستنيك”، لتؤكد أنّها لن تقبل بأن تكون في موقع المتلقّي الاستراتيجي.
الغرب بين الديبلوماسية والردع
في المقابل، تبدو العواصم الغربية حائرة بين خيارين متناقضين: الديبلوماسية الهادئة التي تسعى إلى احتواء بوتين عبر الحوار والضغوط الاقتصادية، وسياسة الردع التصاعدي التي تعتمد على زيادة الإنفاق العسكري وتوسيع نطاق حلف الناتو.
غير أنّ الجمع بين الخيارين لم يُسفر حتى الآن عن أي تقدّم ملموس في إنهاء الحرب الأوكرانية أو في كبح الاندفاعة الروسية نحو مزيد من التصعيد. فالتصريحات المتبادلة بين موسكو وواشنطن باتت تُترجم في الميدان أكثر مما تُترجم في طاولات التفاوض.
ويُشير مراقبون إلى أنّ بوتين، بإعلانه الأخير، أراد أن يبعث رسالة مزدوجة: إلى الولايات المتحدة، بأنّ أي محاولة لفرض اتفاق على موسكو من موقع القوة ستكون عديمة الجدوى، وإلى الشعب الروسي، بأنّ روسيا لم تعد محاصرة أو ضعيفة كما كانت في تسعينيات القرن الماضي، بل قادرة على مواجهة الغرب بندّية كاملة.
هل لا يزال باب الحوار مفتوحًا؟
رغم كل المظاهر التصعيدية، فإنّ الديبلوماسية لم تُغلق تمامًا. فالتواصل بين موسكو وواشنطن، وإن بدا محدودًا، لا يزال قائمًا في ملفاتٍ أمنية وإنسانية حساسة. كما أنّ القوى الأوروبية، لا سيّما فرنسا وألمانيا، تحاول منذ أشهر استعادة موقع الوسيط عبر قنوات خلفية، وإن كانت نتائجها محدودة بفعل تصلّب المواقف.
لكنّ المؤشّر الأخطر هو تآكل الثقة المتبادلة. فكلّ طرف بات ينظر إلى الآخر من منظار العداء البنيوي لا الخلاف السياسي، ما يُعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة، ولكن في عالمٍ أكثر هشاشة وتداخلًا.
توازن الرعب أم عقلانية المصالح؟
إذا كانت التجربة النووية الأخيرة قد أعادت سباق التسلّح إلى الواجهة، فإنّ العالم يقف اليوم أمام مفترقٍ حقيقي بين خيارين: إمّا العودة إلى منطق الردع المتبادل الذي يضمن السلام بالقوّة، أو بناء منظومة تفاهمات جديدة تُعيد الاعتبار للديبلوماسية والعقلانية في إدارة التنافس الدولي.
وبين هذا وذاك، تبقى “البوتينية” – بما تحمله من تصميمٍ على فرض الهيبة الروسية في مقابل الغرب – أحد العوامل الحاسمة في رسم ملامح النظام العالمي المقبل، بين واقعية الردع ومثالية الحوار.
إعلامي وكاتب لبناني