لطالما رُوِّج لفكرة “القومية العربية” باعتبارها الرابط الأسمى بين شعوب تمتد من المحيط إلى الخليج، وتجمعها “لغة واحدة وتاريخ مشترك”، لكن ما إن نُمعن النظر في أصل هذه الفكرة ومسارها السياسي، حتى تتضح لنا مفارقة مؤلمة: القومية العربية، في جوهرها السياسي، لم تكن مشروعًا شعبيًا نهضويًا بقدر ما كانت أداة استخدمتها القوى الاستعمارية، وتحديدًا بريطانيا، لتفكيك الخلافة العثمانية وإضعاف وحدة المسلمين.
في مطلع القرن العشرين، بدأت بريطانيا، القوة الإمبريالية الصاعدة حينها، بتشجيع حركات “التحرر القومي” في المشرق العربي، لا سيما من خلال دعم “الثورة العربية الكبرى” بقيادة الشريف حسين، والتي كانت في الحقيقة حركة انفصالية موجهة ضد الحكم العثماني. الوثائق البريطانية، خاصة مراسلات مكماهون-الحسين، تشير بوضوح إلى وعد بريطاني بدعم “دولة عربية” مستقلة مقابل تقويض النفوذ العثماني في المنطقة لكل من سيقف مع بريطانيا في مخططها.
وهكذا، تم استخدام القومية العربية كأداة سياسية لتدمير آخر كيان إسلامي وحدوي جامع، وهو الدولة العثمانية، لصالح إنشاء كيانات قطرية وظيفية تدور في فلك الاستعمار الغربي. ومع تفكك هذا المشروع، استُبدل وهم “الوحدة العربية” بسلسلة من الأنظمة الاستبدادية المتناحرة التي لم توفّر مناسبة إلا وأكدت على افتراق المصالح وتباين الرؤى.
بالرغم من الترويج الإعلامي المستمر لوجود “ثقافة عربية موحدة”، فإن الواقع الثقافي والاجتماعي في العالم العربي يكشف عن فسيفساء من التباينات العميقة.
دول شمال إفريقيا، على سبيل المثال، تتميز بهوية أمازيغية ـ متوسطية واضحة، بالإضافة إلى اختلافات لغوية وثقافية وتعليمية عميقة، حيث تنتشر الفرنسية كلغة ثانية أو أولى أحيانًا. أما دول الخليج فتمتلك بنية اقتصادية وسياسية مختلفة تمامًا عن دول المشرق العربي أو السودان أو اليمن، فضلًا عن التفاوت الهائل في مستويات التنمية والتعليم.
دول الجنوب تعاني من أزمات سياسية واقتصادية خانقة، في حين أن دول الشمال العربي مثل لبنان أو سوريا أو العراق تمر بأزمات طائفية وعرقية وهيكلية لكنها تمتلك ارث من الحضارات المتعاقبة على المنطقة. هذه الفروقات الجوهرية تفضح زيف فكرة “الوحدة العربية” التي باتت أقرب إلى شعارات إعلامية خاوية.
من أبرز نتائج فشل مشروع القومية العربية هو ما آل إليه وضع القضية الفلسطينية. لقد أُسِرت هذه القضية داخل الإطار القومي العربي، مما جعلها “قضية العرب” فقط، وحرمها من بعدها الإسلامي الأوسع، الذي كان سيمنحها دعمًا عالميًا من مليار ونصف مسلم، من إندونيسيا إلى نيجيريا، ومن كندا إلى باكستان، مع الاحترام طبعا لكل الاديان في فلسطين التاريخية
لو أن فلسطين قُدّمت كقضية إسلامية جامعة، لكانت في موقع مختلف تمامًا من الاهتمام والدعم. المسلمون، عندما تتحرك مشاعرهم الدينية الصادقة، يتجاوزون الحدود والجنسيات والانتماءات القومية الضيقة.
رأينا ذلك في الحملات الشعبية العالمية التي تنطلق في كل مرة تتعرض فيها غزة لعدوان، حيث يهب المسلمون من كافة الأقطار، بينما تتوارى معظم الأنظمة العربية خلف بيانات الشجب الباهتة بل ان التضامن مع فلسطين من الغربيين كان اعمق واكثر تاثيرا من التضامن العربي.
اليهود، بالمقابل، لم يُحوِّلوا “إسرائيل” إلى قضية قومية يهودية شرقية أو غربية، بل إلى كيان جامع ليهود العالم أجمع. فمن أمريكا إلى إثيوبيا، ومن روسيا إلى الأرجنتين، الجميع يتعامل مع الكيان الصهيوني بوصفه “ملكًا لليهود”، وهنا المفارقة: لماذا نُلام إن اعتبرنا فلسطين “ملكًا للمسلمين”؟
تقديم فلسطين كقضية إسلامية لا يعني أبدًا تجريد العرب من دورهم فيها او من اتباع الديانات الاخرى في فلسطين، بل العكس: هو دعوة لتوسيع الجبهة، لتكون قضية جامعة لا حكرًا على قومية أثبتت فشلها، ولا حكرًا على أنظمة عاجزة.
فلسطين بحاجة إلى وعي إسلامي شمولي، يضعها في قلب وجدان الأمة الإسلامية، كما كانت عبر القرون، لا مجرد ملف ضمن أجندة قمم عربية متكررة.
القومية العربية وُلدت من رحم المشروع الاستعماري، وفشلت في أن تكون جامعًا حقيقيًا لشعوب المنطقة.
والواقع يثبت كل يوم أن وحدة العرب حلم بعيد في ظل التناقضات العميقة بينهم. أما فلسطين، فقضيتها أكبر من أن تُقزّم في إطار قومي ضيق. آن الأوان لإعادة تقديمها بوصفها قضية الأمة الإسلامية جمعاء، من حق المسلمين أن تكون فلسطين قضيتهم الجامعة.