فى زمن غير الزمن، كان الزعيم جمال عبدالناصر يطوف مستقلاً سيارته المكشوفة شوارع محافظة السويداء بجبل العرب فى سوريا وبرفقته عبدالحكيم عامر والمهندس نور الدين كحالة، رئيس المجلس التنفيذى لمنطقة سوريا، وعبدالحميد السراج، رئيس المكتب التنفيذى للإقليم الشمالى فى دولة الوحدة (سوريا)، والفريق جمال فيصل، قائد الجيش الأول (كان الجيش الأول فى سوريا والجيشان الثانى والثالث فى مصر)، كانت السيارة المكشوفة تجوب الشوارع بينما الآلاف من أبناء جبل العرب يصطفون للترحيب بجمال عبدالناصر.
من مشارف المحافظة حتى قلب المدينة استقبل الرجال جمال عبدالناصر والسيوف مشرعة فى أياديهم، بينما أطلقت النساء والفتيات الحمام الأبيض تحية للزعيم، وحين وصل الموكب إلى مقر محافظة السويداء، كان الآلاف من أبناء الشعب السورى يملأون الميدان، وفى الشرفة وقف عبدالناصر ووزراء دولة الوحدة وبينهم زعيم ثورة الجبل سلطان باشا الأطرش.
فى هذا اليوم الذى حفظته ذاكرة أبناء جبل العرب ألقى عبدالناصر خطاباً على الجماهير، وكان من بين ما قال فى هذا اليوم المشهود: «لقد كنت أتوق إلى هذا اليوم الذى أراكم فيه لأستعيد ذكرى المعارك التى خضتموها على هذه الأرض الطيبة من أجل الحرية ومن أجل الأمة العربية، وكتبتم فيها صفحات النصر والمجد لكم وللعرب أجمعين».
كان جمال عبدالناصر يقدر سلطان باشا الأطرش، ويحفظ له مكانته، فكان الوحيد من مواطنى دولة الوحدة الذى احتفظ بلقب الباشاوية بقرار من الرئيس جمال عبدالناصر رغم إلغاء الألقاب.
يحكى لى صديقى فيصل الأطرش، نجل شقيق الموسيقار الكبير فريد الأطرش، وحفيد سلطان باشا الأطرش، أن والدته كانت من بين الفتيات اللاتى استقبلن جمال عبدالناصر فى هذه الزيارة التاريخية لمحافظة السويداء، ويستذكر أحاديثها معه عن الزيارة ووقائعها وكيف أنها كانت تعتبر مصافحتها جمال عبدالناصر فى هذا اليوم وساماً على صدرها تباهى به الجميع.
ثورة الجبل
قبل هذه الزيارة التاريخية بنحو خمسة وثلاثين عاماً وفى صيف 1925 كان جبل العرب فى سوريا على موعد مع ثورته الخالدة على الاستعمار الفرنسى، وكان المجاهدون تحت لواء الثورة يعدون أنفسهم ويجهزون أسلحتهم لمواصلة النضال ضد المستعمرين تلبية للنداء الذى أطلقه سلطان باشا الأطرش فى بيان إعلان الثورة، الذى كان من بين ما قال فيه: أيها السوريون، لقد أثبتت التجارب أن الحق يؤخذ ولا يعطى، فلنأخذ حقنا بحد السيف، ولنطلب الموت توهب لنا الحياة.
أيها العرب السوريون، تذكروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومى، تذكروا أن يد الله مع الجماعة، وأن إرادة الشعب من إرادة الله، وأن الأمم المتحدة الناهضة لن تنالها يد البغى، ولقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارة بين وطننا الواحد، وقسمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير، وحرية التجارة والسفر، حتى فى بلادنا وأقاليمنا.
إلى السلاح أيها الوطنيون، إلى السلاح تحقيقاً لأمانى البلاد المقدسة، إلى السلاح تأييداً لسيادة الشعب وحرية الأمة».
وكان لنضال سلطان باشا الأطرش ورفقائه من الوطنيين السوريين فى شتى أنحاء سوريا، فى ساحلها وداخلها، أبلغ الأثر فى تحرير البلاد من الاستعمار الفرنسى وتأسيس دولة سوريا الوطنية الموحدة.
وفى مطلع الثمانينات وحين شعر «الباشا» بدنو الأجل كتب وصيته إلى أبناء أمته، وكان من بين ما كتبه فى وصيته:
«إخوانى وأبنائى العرب: عزمت وأنا فى أيامى الأخيرة، أنتظر الموت الحق، أن أخاطبكم مودعاً وموصياً، لقد أولتنى هذه الأمة قيادة الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسى الغاشم، فنهضت بأمانة القيادة وطلبت الشهادة وأديت الأمانة، انطلقت الثورة من الجبل الأشم جبل العرب لتشمل وتعم، وكان شعارها: الدين لله والوطن للجميع، وأعتقد أنها حققت لكم عزة وفخاراً، وللاستعمار ذلاً وانكساراً.
اعلموا أن الحفاظ على الاستقلال أمانة فى أعناقكم، بعد أن مات من أجله العديد من الشهداء وسالت للوصول إليه الكثير من الدماء، واعلموا أن وحدة العرب هى المنعة والقوة، وأنها حلم الأجيال وطريق الخلاص».
بعد السقوط
فى ديسمبر 2024 كانت الأحداث تمضى بوتيرة متسارعة فى سوريا، بينما كانت القوى صاحبة التأثير والنفوذ فى الساحة السورية تعد سيناريو تسليم البلاد لجماعة أبومحمد الجولانى.
بدا أن مشهد النهاية قد اقترب، وأن تفاصيل عملية التسليم قد اكتملت، ولم يعد سوى التنفيذ، وفى ساعات معدودة كان أبومحمد الجولانى قد وصل إلى قلب العاصمة دمشق، وفى الجامع الأموى ألقى خطاباً سريعاً لم يخلُ من إشارات فسرها كل فريق على هواه.
اعتبرت التنظيمات الإسلامية بمختلف فصائلها وصول الجولانى إلى العاصمة السورية فتحاً عظيماً ونصراً مبيناً، وضاعت مخاوف البعض وتحذيراتهم من بدء عهد طائفى جديد فى البلاد، وسط أصوات التهليل والتكبير والفرحة بسقوط بشار الأسد.
فى هذه الأثناء كانت حملة الدعاية قد انطلقت لإعادة تقديم الجولانى الموضوع على قوائم الإرهاب الدولية، فى صورة الرئيس الشرعى للبلاد التى أسقطت حكم الطغاة بعد سنوات من النضال.
وفى السويداء، حيث جبل العرب، ومركز طائفة الموحدين الدروز، كانت دوائر القلق والخوف من المستقبل تتسع، وكانت العشائر وقادتها يبحثون عن سبيل للوصول إلى اتفاق يحفظ لهم دوراً فى مستقبل سوريا تحت حكم «أحمد الشرع – الجولانى سابقاً»، فى هذه المتاهة دخلت السويداء وجبل العرب وتفرقت السبل بقادتها وظهرت على السطح زعامات تحت الطلب، وتدخلت إسرائيل بكامل قوتها لتوجيه دفة الصراع، وتأجيج نيران الفتنة، بينما كانت طائراتها تقصف كل ما يمكن أن يشكل تهديداً ولو ضئيلاً لأمنها، وكانت دباباتها تقتحم الحدود السورية وتحتل مساحات واسعة لترسم حدودها الآمنة!
وجد أبناء «الجبل الأشم» الذين قاد أجدادهم النضال ضد الاحتلال الفرنسى لسنوات، وجدوا أنفسهم أمام خيارين كلاهما مر: الأول يقوده طامح فى دور ضمن بطانة أحمد الشرع وقواته، والثانى يتزعمه باحث عن فرصة يمنحها إياه الاحتلال الإسرائيلى المباشر أو غير المباشر، فماذا يفعل أبناء الجبل؟، تنهض جماعة من بينهم تبحث عن دور يستنفر الطاقات الكامنة ويستعيد تاريخ سلطان باشا الأطرش ورفقائه فى الدفاع عن حرية البلاد والعباد، والدفاع عن عروبة سوريا ووحدتها، طريق صعب دون شك، لكن هذا ما قاله سلطان الأطرش فى بيان إعلان الثورة: «تذكروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومى، تذكروا أن يد الله مع الجماعة، وأن إرادة الشعب من إرادة الله، وأن الأمم المتحدة الناهضة لن تنالها يد البغى، ولقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارة بين وطننا الواحد، وقسمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات».
هذا تماماً ما يحدث الآن فى السويداء، بل لا نبالغ إن قلنا إنه تمدد وسيتمدد فى ساحل سوريا وداخلها، إن ما شهدته محافظة السويداء وغيرها من مدن جبل العرب منذ وصول «الشرع» وجماعته إلى سدة الحكم فى سوريا يؤكد الفكرة القائلة بأنه تعبيد للطريق أمام احتلال إسرائيلى مباشر، قبل عدة أيام كانت الصور والفيديوهات التى تظهر المسلحين المنضوين تحت لواء «التنظيمات الإرهابية سابقاً، فى ممارساتهم الطائفية المهينة ضد أبناء طائفة الموحدين فى جبل العرب، وتلك التى تظهر صور سلطان باشا الأطرش وهى تداس بأقدام هؤلاء المسلحين، تملأ فضاء منصات التواصل الاجتماعى فتلقى بمزيد من زيت الكراهية على نار الفتنة التى أشعلها من يريدون لإسرائيل أن تتدخل تحت شعارات حماية الطائفة الدرزية الزائفة.
إن خروج السويداء من هذا الفخ الطائفى/ الاستعمارى المركب، لا يمكن أن يحدث إلا بتبنِّى برنامج عمل وطنى شامل يحافظ على وحدة سوريا واستقلالها، ويحترم تنوعها الدينى والطائفى، وهذا لن يحدث إلا إذا تخلت سلطات الأمر الواقع فى دمشق عن توجهاتها، وتحللت من التزاماتها تجاه من أدخلوها قصر الشعب ودعموا وجودها وثبتوا أركانها، فهل هذا ممكن؟!