أقلام يورابيا

“الأسد الصاعد”.. ضربة ما بعد الردّ… ورسائل ما قبل الانفجار

جمال دملج

كأنّ ليل طهران، مساء البارحة، لم يكن اعتياديًا… فمن عمق الظلام الدامس في الأجواء الإيرانية، تسرّبت الأنباء الأولى لعملية إسرائيلية نوعية، حملت اسمًا غير مسبوق: “الأسد الصاعد”. ورغم التكتّم الرسمي الذي لفّ تفاصيل العملية، في البداية، فإنّ التسريبات الأولية أكّدت دقة فائقة في استهداف منشآت عسكرية حساسة ومقارّ استخباراتية، ناهيك عن تصفية شخصيات رئيسية داخل هيكل “الحرس الثوري”، بعضها محسوب على جناح العمليات الخارجية.

وبحسب المعطيات التي رشحت عن مصادر غربية وعبرية متقاطعة، منذ ساعات الصباح الأولى، فإنّ العملية لم تكن ردًّا على عمل إيراني مباشر بقدر ما جاءت تتويجًا لسلسلة تقييمات إسرائيلية وأميركية مشتركة، تعتبر أنّ سياسة “الاحتواء” لم تعد تردع إيران عن توسيع نفوذها في الإقليم، لا عبر الحرس الثوري مباشرة، ولا عبر وكلائه.

دقّة في التصويب… وعصف في الوجدان

لعلّ الجديد في هذه الضربة ليس طبيعتها الأمنية، ولا حتى توقيتها – إذ اعتادت إيران الضربات الغامضة من دون إعلان المسؤولية – بل في جرأتها في العمق الإيراني، وفي وضوح التوقيع الإسرائيلي الذي لم يُخفَ هذه المرة لا في التسمية ولا في التسريب.

والجديد أيضًا أنّ الضربة تجاوزت بُعدها العسكري إلى تأثير نفسي مركّب داخل المجتمع الإيراني، حيث شعر الإيرانيون، للمرّة الأولى منذ سنوات، بأنّ “عين إسرائيل” ليست فقط على الساحة السورية أو العراقية أو اللبنانية، بل على العاصمة طهران نفسها، وعلى القيادات المحصّنة خلف الجدران.

هل ستردّ طهران؟ سؤال أكثر خطورة من الجواب

السؤال الذي يتقدّم كل الأسئلة اليوم هو: هل ستردّ إيران؟ وإذا ردّت، فما حجم الردّ؟ الإجابة ليست تقنية، بل سياسية وأيديولوجية بامتياز.

من جهة، لا تملك طهران ترف التراخي في الرد، لا سيما بعد أن جعلت من شعار “الردّ الحتمي” جزءًا من خطابها التعبوي الداخلي. لكن، من جهة مقابلة، تدرك المؤسسة الأمنية الإيرانية أنّ أي ردّ تقليدي قد يفتح أبواب الجحيم، ويعطي إسرائيل الذريعة لتوسيع العمليات إلى داخل ما تبقى من المنشآت النووية أو نحو ما تبقى من البنية التحتية العسكرية الحيوية.

من هنا، يتوقّع المراقبون أن تلجأ إيران إلى ردّ محسوب، عبر وسطاء أو ساحات أخرى، كالعراق أو الجولان أو حتى البحر الأحمر. إلّا أنّ المفارقة تكمن في أنّ هذه “الساحات” باتت مثقلة بجراح الضربات السابقة.

أذرع مثخنة… وحياد ظرفي؟

التحولات الإقليمية التي تسارعت في الأشهر الأخيرة، كشفت أنّ أذرع إيران – من “حزب الله” في لبنان، إلى “الحشد الشعبي” في العراق، و”أنصار الله” في اليمن – تعاني من تراجع في المبادرة، واستنزاف في القدرة، وارتباك في الحسابات.

ففي لبنان، يكافح “الحزب” لاحتواء تداعيات مساندة غزة والانهيار الاقتصادي والضغوط الدولية. وفي سوريا، بات حضوره العسكري والأمني معدومًا بعد سقوط نظام بشار الأسد. أما في العراق، فقد تلقّى “الحشد” سلسلة من الضربات “النوعية”، تُنذر بانحسار نفوذه في بعض المحافظات. وفي اليمن، تُسجَّل هشاشة واضحة في الأداء بعد الضربات الأميركية والبريطانية، وتردّد سعودي في تجديد مسارات الحوار.

وبالتالي، فإنّ الفرضية الأكثر ترجيحًا تشير إلى أن هذه الأذرع ستحاول – مؤقتًا – النأي بنفسها عن معركة الردّ المباشر، تفاديًا لتكرار الخسائر من جهة، وانتظارًا للوضوح الاستراتيجي من جهة أخرى.

“شرق أوسط جديد”… برؤية نتنياهو لا كوندوليزا رايس

اللافت في ضربة “الأسد الصاعد” هو تزامنها مع خطاب داخلي متصاعد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يلمّح فيه إلى أنّ الشرق الأوسط يدخل طورًا جديدًا، لا بموجب اتفاقيات سلام تقليدية، بل عبر فرض معادلات ردع غير قابلة للانقلاب.

فما عجزت عن تحقيقه تسويات “أوسلو” و”كامب ديفيد” و”صفقة القرن”، يحاول نتنياهو أن يفرضه الآن بقوة النار، وسرعة المبادرة، واستراتيجية “الضربة الوقائية” قبل أن يُسجَّل الخطر.

ليس من المبالغة القول إنّ عملية “الأسد الصاعد” تفتح على العدّ العكسي لتثبيت معادلة جديدة في المنطقة، لا مكان فيها لـ”رمادية” السلوك الإيراني، ولا لـ”تفاهمات متأرجحة” مع وكلائه. فإسرائيل باتت تتصرّف كما لو أنّ الشرعية الدولية متروكة على الهامش، وأنّ الصراع الآن هو بين نارين: نار المبادرة ونار الخوف من السكون.

ما بعد الضربة… ليس كما قبلها

“الأسد الصاعد” ليست مجرد تسمية عملياتية، بل هي إشارة إلى تحوّل استراتيجي في المنهج الإسرائيلي تجاه إيران، وانقلاب في قواعد الاشتباك المعهودة.

وإذا كانت طهران ستردّ عاجلًا أم آجلًا، فإنّ الشرق الأوسط في الحالتين يتّجه إلى مرحلة جديدة، عنوانها: من يملك القدرة على الحسم قبل أن يملك الرغبة في السلام.

قد تكون هذه هي لحظة الحقيقة التي انتظرها نتنياهو طويلًا، والتي يخشى كثيرون أن تتحوّل، في غياب التوازنات، إلى شرارة تُلهب الإقليم بأكمله.

إعلامي وكاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى