فى مشهد لا يخلو من المفارقة، يتحدث بعض صناع القرار فى إسرائيل عن إنشاء «مدينة إنسانية» جنوب قطاع غزة، كأنهم يطرحون مبادرة إنقاذ لضحايا حربٍ دموية مستمرة منذ ما يزيد على عامين، ليسوا هم من تسببوا فيها!!.
المشروع أعلنه وزير الدفاع الإسرائيلى، يسرائيل كاتس، ويقضى بإنشاء منطقة مغلقة لإيواء نحو 600 ألف فلسطينى فى رفح، وقد أثار جدلاً واسعاً داخل إسرائيل وخارجها، بين من يراه خطوة لتقليل الأضرار، ومن يعتبره تمهيداً لمخطط تهجير جماعى. اللافت أن المشروع لم يحظَ بإجماع إسرائيلى داخلى، بل كشف عن انقسام حاد بين المستويين السياسى والعسكرى.
نتنياهو أعلن عن رفضه لخطة وزير الدفاع ووصفها بـ«غير الواقعية»، وطالب بخطة بديلة «أسرع وأقل تكلفة». فى المقابل، حذر رئيس الأركان إيال زامير من أن المشروع قد يستغرق شهوراً وربما عاماً كاملاً للتنفيذ، ما يعرقل مفاوضات الرهائن، كما أبدى مسؤولو المالية اعتراضهم، متوقعين كلفة تفوق ٤.٥ مليار دولار، فى وقت تواجه فيه إسرائيل ضغوطاً اقتصادية متصاعدة بسبب خسائرها فى الحرب. على الأرض، لا تحمل ملامح الخطة ما يوحى بأى إنسانية، فوفقاً لتفاصيل الخطة، سيخضع المدنيون الفلسطينيون للتفتيش الأمنى قبل الدخول، ولن يُسمح لهم بالمغادرة.
وستكون المساعدات موزعة تحت إشراف المنظمات الدولية، فيما يتولى الجيش الإسرائيلى مراقبة المنطقة عن بُعد. هذا النموذج القسرى أثار تشبيهات مؤلمة بمعسكرات الاعتقال، حتى من داخل إسرائيل نفسها، فإيهود أولمرت، رئيس الوزراء الأسبق، وصف المشروع بصراحة بأنه «معسكر اعتقال».
على الأرض كذلك لا توجد ضمانات للجيش الإسرائيلى أن خطته فى مسألة تصفية حماس ستنجح، بل إن العمليات التى يقوم بها رجال المقاومة أخيرا تؤكد أن مسألة إعادة التمركز والمناورة السياسية والعسكرية لاحقاً واردة.
رغم التبريرات الإسرائيلية بأن المشروع يهدف إلى حماية المدنيين وفصلهم عن حماس لتسهيل العمليات العسكرية، إلا أن كثيرين يرون فيه محاولة لعزل الفلسطينيين جغرافياً ودفعهم تدريجياً نحو التهجير القسرى. المستشار الإعلامى لـ«أونروا» فى غزة، عدنان أبو حسنة، حذر من أن المدينة المقترحة ستكون خطوة نحو تنفيذ خطة قديمة بتهجير سكان غزة إلى خارج فلسطين، تحت وطأة الجوع والحصار.
إن ما يسمى بـ«المدينة الإنسانية» هو نسخة محدثة من مشاريع إسرائيلية سابقة تهدف إلى تفكيك البنية السكانية والسياسية لغزة، مستفيدين من الدعم الأمريكى والصمت الإقليمى، وأن الهدف ليس إنسانيا بل «تحكّمياً» فى مصير الفلسطينيين وتطبيع التهجير باعتباره مخرجاً مقبولاً أمام العالم. لا يمكن النظر إلى «المدينة الإنسانية» إلا كمشهد مركّب يعكس عمق أزمة إسرائيل فى إدارة نتائج الحرب، وتخبّطها بين أهداف غير قابلة للتحقيق وأثمان سياسية وعسكرية باهظة. وبين تسميات مخففة كـ«مدينة إنسانية» وحقائق صارخة عن «معسكر اعتقال»، يبدو أن المشروع يشكّل أكثر من خطر على الفلسطينيين، حيث إنه اختبار قاسٍ لوعى العالم وإرادته فى منع تكرار مآسى التاريخ باسم الأمن أو الإنسانية.
عن صحيفة المصري اليوم