المعهد الإيطالي للشؤون الدولية: قيس سعيّد يُحكم قبضته على الحريات العامة ويدفع تونس نحو سلطوية شاملة
من سعيد سلامة
لندن ـ يورابيا ـ من سعيد سلامة ـ قال المعهد الإيطالي للشؤون الدولية إن الرئيس التونسي قيس سعيّد قد بسط هيمنته المطلقة على النظام السياسي والقضائي والإعلامي في البلاد، على نحو يشكل تهديدًا جوهريًا لحقوق الإنسان ويعيد تونس إلى مربع السلطوية. وأوضح المعهد أن وتيرة القمع تسارعت خلال العام الماضي، حيث طال الاستهداف محامين، ومعارضين سياسيين، ونشطاء حقوقيين، في حملة وصفتها المفوضية السامية لحقوق الإنسان بأنها تهدد جوهر سيادة القانون.
وأضاف المعهد أن مفوضية الأمم المتحدة أعربت في بيانها بتاريخ 14 يوليو/تموز عن قلقها البالغ من ملاحقة المحامين “بسبب قيامهم بدورهم المهني أو لمجرد تعبيرهم عن آرائهم”، محذّرة من أن هذه السياسات تنال من نزاهة الإجراءات القضائية في تونس، وتُقوض الحق في محاكمات عادلة.
استهداف المحامين كجزء من قمع أوسع
وأشار المعهد إلى أن عدداً من المحامين البارزين كانوا ضمن قائمة المتعرضين للملاحقة، من بينهم دليلة مصدق، إسلام حمزة، عياشي الحمامي، غازي الشواشي، مهدي زغربة، ولزهر العكرمي. كما أكد أن حالتي سنية الدهماني وأحمد صواب تجسدان كيف باتت المحاماة نفسها تُعامل كجريمة.
وأوضح أن الدهماني، المحامية والناشطة، اعتُقلت داخل مقر نقابة المحامين التونسية في مايو 2024، وتواجه حاليًا خمس دعاوى جنائية بموجب المرسوم 54 لعام 2022 الخاص بالجرائم الإلكترونية، بسبب تصريحاتها العلنية. وقد أُدينت في يناير 2025 بالسجن لمدة 18 شهرًا، ثم أُضيفت عقوبة أخرى بالسجن سنتين في يونيو من العام ذاته.
أما المحامي أحمد صواب، فقد اعتُقل في أبريل عقب انتقادات وجهها علنًا، في خطوة وصفها المعهد بأنها تكشف ميل السلطة لمعاقبة حتى أصوات النقد المتفرقة.
الأمم المتحدة والعفو الدولية: النظام القضائي فقد استقلاله
وأضاف المعهد أن فولكر تورك، المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، دعا السلطات التونسية مرارًا إلى إنهاء حملات القمع ضد المعارضين، والإفراج عن المعتقلين لأسباب إنسانية، ولا سيما كبار السن والمرضى.
وأشار المعهد إلى تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في 19 أبريل، والذي كشف أن نحو 40 متهمًا، من بينهم محامون وسياسيون ونشطاء حقوقيون، صدرت بحقهم أحكام بالسجن تتراوح بين 13 و66 عامًا بتهم “التآمر”، استنادًا إلى أدلة واهية أو معدومة. وأوضح أن جوهر الاتهامات كان يتمحور حول “تبادل رسائل مع دبلوماسيين أجانب، أو نقاشات داخلية تتعلق بمعارضة سلميّة للرئيس سعيد”.
ومن بين أبرز المحكومين، بحسب المعهد، راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة، وعبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر، ما يسلّط الضوء على أن القمع لم يعد انتقائيًا بل بات ممنهجًا ضد جميع أشكال المعارضة، سواء كانت إسلامية أو علمانية.
هيومن رايتس ووتش: حملة قمع لم تشهدها تونس منذ 2011
وأورد المعهد ما جاء في تقرير هيومن رايتس ووتش تحت عنوان “كل المتآمرين”، الصادر في أبريل الماضي، والذي وثق حالات 28 معتقلاً سياسيًا. ولفت إلى قول بسام خواجة، نائب مدير قسم الشرق الأوسط بالمنظمة، إن حملة القمع الحالية هي “الأشد منذ ثورة 2011″، ما يعكس تحوّلًا خطيرًا في طبيعة الحكم في تونس.
الشارع يرفض… والجمهورية تتحول إلى “سجن مفتوح”
وقال المعهد إن تونس شهدت احتجاجات غير مألوفة في 24 يوليو 2025، بالتزامن مع يوم الجمهورية، حيث خرج مئات المواطنين في تظاهرات رافضة لحكم سعيّد، متهمين إياه بتحويل البلاد إلى “سجن مفتوح”، بحسب وصفهم.
ونقل عن منية إبراهيم، زوجة السياسي المسجون عبد الحميد الجلاصي، قولها إن الهدف الأساسي من الاحتجاجات هو “استعادة الديمقراطية والمطالبة بالإفراج عن السجناء السياسيين”. فيما قال صائب صواب، نجل المحامي المعتقل أحمد صواب، إن السجون التونسية أصبحت مكتظة بالمعارضين والصحفيين.
أما سمير ديلو، الوزير السابق وعضو حركة النهضة، فصرّح بأن “سعيّد بدّل معنى يوم الجمهورية من مناسبة وطنية إلى رمز لانهيارها”، مؤكداً أن “السلطة المطلقة تفسد مطلقًا”.
مراحل الانحدار السياسي في عهد سعيّد
أوضح المعهد أن الانهيار الديمقراطي في تونس بدأ فعليًا في يوليو 2021، عندما استند سعيّد إلى المادة 80 من الدستور لتجميد البرلمان وإقالة الحكومة، معلنًا حالة الطوارئ. ومنذ ذلك التاريخ، بدأ الحكم بمرسوم، في تجاهل تام للسلطات التشريعية والقضائية.
وأضاف أن الاستفتاء على الدستور الجديد في يوليو 2022، الذي أقره نحو 94.6% من المشاركين بنسبة إقبال متدنية (31%)، أعاد إرساء نظام رئاسي مفرط القوة، بعد إلغاء دستور 2014، ما مثّل تراجعًا واضحًا عن مكتسبات ثورة الياسمين.
وفي سبتمبر 2022، أصدر سعيّد المرسوم 54 الخاص بالجرائم الإلكترونية، والذي استُخدم لاحقًا كسلاح ضد الصحفيين والمحامين والمعارضين. كما حلّ المجلس الأعلى للقضاء، واستبدله بهيئة يعينها بنفسه، وأوقف الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية القوانين.
وفي عامي 2022 و2023، عمد إلى تعديل قانون الانتخابات بما يتماشى مع الدستور الجديد، مُحكماً قبضته على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (ISIE). وفي أكتوبر 2024، فاز بانتخابات رئاسية بنسبة 90.69%، فيما تم اعتقال أحد منافسيه قبل أيام من الاقتراع.
الاقتصاد يتهاوى والقمع يستمر
قال المعهد الإيطالي إن تصاعد القمع السياسي لا يمكن فصله عن فشل سعيّد في تقديم حلول ملموسة للأزمة الاقتصادية، حيث وصل الدين العام إلى 90.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغ معدل البطالة 15.8%، بينما وصلت بطالة الشباب إلى أكثر من 40%، في غياب أي رؤية اقتصادية واضحة.
وأضاف أن هذا العجز في الأداء الاقتصادي يدفع النظام إلى تعزيز السيطرة على مفاصل الدولة من خلال الإعلام، والقضاء، والمؤسسات الأمنية، بهدف كبح المعارضة واحتواء الغضب الشعبي المتزايد.
تونس في منزلق خطير
واختتم المعهد الإيطالي للشؤون الدولية تقريره بالتحذير من أن تونس باتت على مشارف ديكتاتورية مكتملة الأركان، تتغذى على القمع والرقابة وتفتقر إلى أي مشروع سياسي جامع. وقال المعهد إن البلاد تواجه اليوم خطرًا مزدوجًا: تدهور اقتصادي حاد، وقمع سياسي شامل، يجعل من أي حديث عن انتقال ديمقراطي أو استقرار داخلي أقرب إلى الوهم.