نيويورك تايمز: الأزمة الاقتصادية في مصر تثير معضلة أخرى… الإكراميات
من سعيد جوهر
واشنطن ـ من سعيد جوهر ـ قالت صحيفة نيويورك تايمز في تقرير مطوّل تناول الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للأزمة الاقتصادية في مصر، قالت صحيفة نيويورك تايمز إن الضغوط المعيشية المتزايدة لا تقتصر على ارتفاع الأسعار وتراجع القوة الشرائية، بل تمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية الدقيقة، ومن أبرزها ثقافة “الإكراميات” التي باتت تشكّل معضلة اقتصادية وأخلاقية في آنٍ واحد.
وأضافت الصحيفة أن الإكراميات ـ التي طالما اعتُبرت تعبيرًا عن الامتنان أو وسيلة للحصول على خدمة أسرع ـ أصبحت اليوم عبئًا ماليًا إضافيًا على المصريين. فمن النُدُل وعمال التوصيل، إلى موظفي الاستقبال والممرضات في المستشفيات، وصولًا إلى بعض الموظفين الحكوميين، جميعهم باتوا يعتمدون على الإكراميات كدخل أساسي يعوض تدني الأجور وتفاقم التضخم.
وتشير نيويورك تايمز إلى أن هذا الواقع الاقتصادي المرهق يتجلى بوضوح حتى في الثقافة الشعبية. ففي الفيلم المصري الكلاسيكي “حلو ومر”، يجد البطل – العائد من الولايات المتحدة بعد غيابٍ دام عقدين – نفسه مصدومًا من حجم “الإكرامية” المطلوبة لإنهاء معاملة حكومية بسيطة. فعندما يطلب الموظف المسؤول “شايًا بمئة ملعقة سكر”، يتبيّن لاحقًا أن المقصود رشوة مالية مقنّعة.
وترى الصحيفة أن هذا المشهد السينمائي، الذي بدا في الماضي مبالغًا فيه، يعكس اليوم واقعًا مألوفًا في مصر عام 2025، حيث تغيّر معنى المال وقيمته. ففي عام 2010، كانت مئة جنيه مصري تعادل نحو 18 دولارًا أمريكيًا، أما اليوم فتنخفض قيمتها إلى ما يقارب دولارين فقط، ما يجعل حتى الرشوة الصغيرة مرهقة بالنسبة للطبقة المتوسطة أو الفقيرة.
وبحسب الصحيفة، فإن الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت منذ مطلع عام 2022 أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة بلغت 38% في سبتمبر/أيلول 2023، قبل أن تتراجع إلى 11.7% في سبتمبر الماضي بعد حصول مصر على حزم دعم وتمويل من صندوق النقد الدولي والإمارات العربية المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن الإصلاحات الاقتصادية لا تزال بطيئة، والضغوط على المواطن لم تخفّ بعد.
ونقلت الصحيفة عن مارينا قلدس (29 عامًا)، مديرة مواقع التواصل الاجتماعي في القاهرة، قولها:”لقد امتدّ التضخم إلى كل شيء، حتى الإكراميات. في السابق، كانت 10 أو 20 جنيهًا كافية، أما الآن فهي لا تُجدي نفعًا.”
وتروي قلدس كيف اضطرت لدفع إكراميات يومية للممرضات أثناء علاج والدها من الفشل الكلوي في أحد المستشفيات، حتى يحصل على أبسط المساعدات مثل كوب ماء أو المساعدة في تبديل ملابسه. وتقول:”أفهم الأمر، فالأجور منخفضة للغاية، والناس بحاجة إلى أي دخل إضافي ليستطيعوا العيش.”
وترى نيويورك تايمز أن الإكرامية في مصر لم تعد مجرد “عرف اجتماعي” بل أصبحت أداة حيوية للبقاء في اقتصاد يرزح تحت وطأة التضخم وانخفاض الأجور. إلا أن الجدل يتواصل حول الحد الفاصل بين “الامتنان” و”الرشوة”.
وتوضح الصحيفة أن الممارسات المرتبطة بالإكراميات تمتد من أبسط الخدمات اليومية إلى المعاملات الرسمية. فعلى سبيل المثال، عندما ذهبت قلدس لتجديد رخصة قيادتها، لاحظت أن بعض المواطنين يدفعون مبالغ مالية لموظف حكومي لتجاوز اختبار القيادة. وبينما رفضت هي الفكرة من حيث المبدأ، فإنها لم تتردد في دفع ألف جنيه (نحو 33 دولارًا آنذاك) للموظف نفسه مقابل السماح لها بتجاوز الطابور الطويل، وهو المبلغ الذي ارتفع اليوم إلى نحو 1800 جنيه (38 دولارًا تقريبًا).
وتنقل الصحيفة عن مصريين آخرين قولهم إنهم باتوا يشعرون بالحرج أو الضيق من هذه الثقافة التي تتسلل إلى كل مجالات الحياة اليومية، حتى في مواقف السيارات أو المتاجر. وتقول مي محمد صادق، وهي معلمة لغة إنجليزية في القاهرة:”كنت أدفع خمسة جنيهات لعمال ركن السيارات، والآن أصبحت الإكرامية بين 10 و15 جنيهاً. لم يعد الأمر مجرد شكر، بل محاولة لمساعدة الآخرين في ظل الظروف الصعبة.”
ورغم ذلك، تعترف صادق بأن بعض المواقف تثير امتعاضها، خصوصًا عندما يُطالب الناس بإكرامية دون تقديم أي خدمة حقيقية، أو عندما تتحوّل الإكرامية إلى وسيلة للحصول على امتياز على حساب الآخرين.
وتضيف الصحيفة أن هذه الازدواجية في المشاعر تعكس واقعًا معقدًا في المجتمع المصري، حيث تتقاطع الحاجة الاقتصادية مع مفاهيم العدالة والأخلاق. فالإكرامية أصبحت، في نظر البعض، واجبًا اجتماعيًا أو عملًا خيريًا يخفف من الفجوة الطبقية، بينما يراها آخرون شكلًا من أشكال الفساد اليومي الصغير الذي يعيق الكفاءة والمساواة.
وفي ختام تقريرها، تشير نيويورك تايمز إلى أن المشهد العام في مصر يُظهر أن الإكراميات لم تعد مجرد تفصيل اجتماعي ثانوي، بل مرآة دقيقة تعكس آثار الأزمة الاقتصادية العميقة، وتكشف كيف اضطر المصريون إلى إعادة تعريف مفاهيم الامتنان، والكرم، وحتى العدالة، في ظل اقتصادٍ لم يَعُد يرحم أحدًا.
