على الساحل السوري… اختطاف النساء العلويات يكشف هشاشة الأمن وانقسام المجتمع
من سعيد إدلبي
دمشق ـ يورابيا ـ من سعيد إدلبي ـ في مدن الساحل السوري التي طالما رُوّج لها بوصفها “المنطقة الآمنة” وسط حرب أحرقت معظم البلاد، يتنامى اليوم شبح جديد يثير الذعر بين السكان: اختطاف النساء، لا سيما من الطائفة العلوية، في مشهد لم يكن مألوفًا حتى في أشد سنوات الصراع السوري عنفًا.
التقارير المتداولة في الأشهر الأخيرة ترسم صورة مرعبة لمناطق مثل جبلة ومصياف وطرطوس، حيث باتت عمليات الخطف تتم في وضح النهار، والضحايا في الغالب نساء شابات، تُنتزع حريتهن في الطرق الفرعية أو أثناء ذهابهن إلى العمل أو الدراسة.
ظاهرة تتسع في صمت
بحسب روايات وثّقها تحقيق موقع ميديا بارت الفرنسي، فإن موجة الاختطاف الجديدة لا تقتصر على الحالات الفردية المعزولة، بل باتت ظاهرة متكررة تتغذى على انهيار القانون، وتواطؤ الأجهزة الأمنية، وتفكك النسيج الاجتماعي.
إحدى الضحايا، شابة في العشرين من عمرها، اختُطفت أثناء عودتها من عملها في مدينة مصياف، حيث أُرسلت صورها إلى عائلتها عبر تطبيقات الهاتف بعد أيام قليلة، في محاولة لابتزازهم ماليًا.
وفي جبلة، أُبلغ عن حالة مشابهة لامرأة في منتصف الثلاثينات عُثر عليها لاحقًا في حالة صدمة بعد تعرضها للضرب والتعذيب، وقد رفضت الحديث علنًا خوفًا من الانتقام.
رغم توثيق عشرات الحالات، فإن السلطات المحلية التزمت الصمت، ولم تصدر وزارة الداخلية السورية أي بيان رسمي، ما جعل السكان يفسرون هذا التجاهل على أنه مؤشر للعجز أو التواطؤ.
“نعيش في خوف دائم، لم يعد أحد يثق بأحد”، تقول والدة إحدى المختطفات. “الشرطة لم تحقق، والمسؤولون يطلبون منا الصبر، لكن ابنتي لم تعد منذ شهرين.”
خلفيات طائفية متفجرة
التحقيقات الميدانية تشير إلى أن غالبية الضحايا من العلويين — الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد وغالبية ضباط الجيش والأجهزة الأمنية.
هذا البعد الطائفي أثار جدلًا عميقًا، إذ يرى بعض المراقبين أن ما يحدث يعكس توترًا داخليًا في المعسكر نفسه، وأن المجرمين ليسوا دائمًا “خصومًا سياسيين”، بل عصابات منظمة تضم عناصر من خلفيات موالية للنظام نفسه، مستفيدة من غياب المحاسبة والسلطة القضائية.
يقول أحد سكان طرطوس: “لم يعد الانتماء الطائفي يحمي أحدًا. هؤلاء الخاطفون يعرفون أن الدولة لن تلاحقهم ما داموا لا يهددون السلطة مباشرة.”
وتؤكد تقارير محلية أن بعض العصابات تضم أفرادًا سابقين في ميليشيات قاتلت إلى جانب النظام، ثم تحوّلوا إلى الجريمة بعد أن تُركوا بلا عمل أو رواتب.
الدولة الغائبة والمجتمع الخائف
منذ بداية الحرب السورية، قدّم النظام نفسه كضامن للأمن، خاصة في الساحل الذي ظل بمنأى عن المعارك الكبرى. لكن مع مرور الوقت، تحوّلت تلك المناطق إلى بؤر فوضى مغلقة، تُمارَس فيها الجريمة في غياب شبه تام لمؤسسات الدولة.
السلطات الرسمية، بحسب التحقيق، لم تكتفِ بعدم التحرك، بل تمارس التعتيم الإعلامي، مانعة الصحف المحلية من تغطية الموضوع.
النتيجة أن سكان الساحل يعيشون في عزلة أمنية ونفسية خانقة، بينما تتبادل العائلات صور المفقودين في مجموعات سرية على تطبيقات التواصل، باحثة عن أي خبر أو أثر.
أحد وجهاء اللاذقية قال لمراسل أجنبي: “الدولة تحمينا من المعارضة المسلحة، لكنها لا تحمينا من أنفسنا. صار البحر أكثر أمانًا من الشارع.”
العبارة تلخّص مأساة منطقة كانت يومًا تعتبر الحاضنة الأكثر استقرارًا للنظام.
شهادات من الألم
القصص الواردة من الميدان تقطر مأساة. في ريف جبلة، روت امرأة أن ابنتها اختُطفت على يد مجموعة مجهولة أثناء عودتها من السوق. بعد أيام، تلقت العائلة رسالة صوتية قصيرة: “ادفعوا وإلا سنرسل جثتها.”
لم تجرؤ الأسرة على إبلاغ الشرطة، بل جمعت المال سرًا وسلمته عبر وسيط، لتُطلق سراح الفتاة لاحقًا في حالة يرثى لها، بعد أن تعرّضت للاغتصاب والضرب.
الفتاة اليوم تعيش في عزلة، بينما يرفض الأهل الحديث علنًا خشية الفضيحة والانتقام.
وفي حادثة أخرى، ظهرت شابة تُدعى “آية” بعد اختفائها لأسابيع، وقد بدت على جسدها آثار التعذيب، وأخبرت المقربين أنها احتُجزت في قبو مظلم وتعرّضت للضرب والاستجواب المتكرر حول خلفيتها العائلية.
قصتها سرعان ما تحولت إلى رمز لآلاف النساء اللواتي يواجهن المصير نفسه، وسط تجاهل رسمي وصمت اجتماعي.
“الدولة العميقة” تتغاضى؟
يرى بعض الباحثين أن تصاعد الظاهرة يحمل دلالات سياسية. فالمناطق العلوية لطالما تمتعت بامتيازات أمنية في عهد الأسد، لكن مع تضاؤل الموارد وانكماش الاقتصاد، بدأت تلك الامتيازات تتلاشى، وتحوّلت الأجهزة الأمنية نفسها إلى شبكات مصالح.
يقول أحد المحللين السوريين في المنفى: “إنها ليست مجرد جرائم فردية، بل انعكاس لانهيار البنية السلطوية التي كان النظام يقوم عليها. من كانوا يحمون النظام باتوا اليوم يبتزون مجتمعاتهم.”
بعض التقارير تحدثت عن تورط عناصر نافذة في تغطية الخاطفين أو تسهيل مرورهم عبر الحواجز. وفي أكثر من حالة، أُفرج عن مشتبه بهم بعد ساعات من توقيفهم، ما عزز الاعتقاد بأن القانون أصبح أداة بيد الأقوياء.
العنف القائم على النوع
التحقيق أشار أيضًا إلى أن معظم الضحايا نساء، ما يجعل القضية تتجاوز الجريمة المنظمة إلى جريمة قائمة على النوع الاجتماعي.
نساء العلويين، اللواتي كان يُنظر إليهن سابقًا كرمز للتماسك العائلي في بيئة مغلقة، أصبحن اليوم عرضة للعنف الجنسي والابتزاز.
تقول إحدى الناشطات من اللاذقية: “نحن أمام انهيار اجتماعي عميق. لم تعد المرأة العلوية محصّنة في مجتمعها. العنف لم يعد سلاحًا سياسيًا فقط، بل وسيلة إذلال جماعي.”
في المقابل، يُلقي البعض اللوم على حالة الفقر واليأس العام. فمع تفاقم الأزمة الاقتصادية وانهيار الليرة السورية، يجد كثيرون في الخطف وسيلة للعيش، بينما تكتفي السلطات بتصريحات مبهمة عن “عصابات خارجة عن القانون”.
عائلات بلا إجابات
في ظل انعدام الشفافية، يعتمد الأهالي على وسائل التواصل الاجتماعي للبحث عن أحبائهم. صفحات مثل “المفقودون في الساحل” تمتلئ يوميًا بصور نساء مختفيات، معظمهن شابات من أسر متواضعة.
وفي كثير من الحالات، تُختتم المنشورات بعبارات مأساوية: “عُثر عليها متوفاة”، أو “أُعيدت مقابل فدية باهظة”.
إحدى الأمهات قالت للصحيفة الأجنبية التي أجرت التحقيق: “ابنتي عادت، لكن روحها لم تعد. من يختطف فتاة في وضح النهار، يعلم أن لا أحد سيحاسبه.”
مجتمع يتآكل من الداخل
تكشف هذه الظاهرة المروّعة هشاشة البنية الاجتماعية في الساحل السوري، حيث التواطؤ والصمت الجماعي يجعلان من المجرم بطلًا محليًا، ومن الضحية عبئًا على أهلها.
لم يعد الخوف من الحرب أو القصف، بل من الجار والسائق والشرطي.
في مدنٍ كانت يومًا رمزًا للولاء والاستقرار، باتت النساء فيها يخشين السير في الشوارع، والعائلات تغلق أبوابها عند الغروب.
صمت أخطر من الرصاص
في النهاية، تبدو عمليات الخطف على الساحل السوري انعكاسًا مكثفًا لواقع بلد أنهكته الحرب والعقوبات والانقسام.
لم يعد الصراع بين موالٍ ومعارض، بل بين من يملك القوة ومن لا يملكها.
في مجتمع تحكمه الولاءات قبل القوانين، يُصبح اختطاف النساء فعلًا بلا عقاب، ورسالة بأن الدولة لم تعد دولة، بل شبكة من الخوف والمصالح.
وكما كتب أحد المعلقين المحليين: “عندما تُختطف النساء في معاقل النظام، فاعلم أن النظام نفسه أصبح مختطفًا.”
