أقلام يورابيا

المسلمون في روسيا… عماد الاستقرار الديني ووحدة المصير الوطني

جمال دملج

لم يشكّل المسلمون في روسيا، الذين يُقدّر عددهم اليوم بأكثر من عشرين مليون نسمة، عنصر انقسام في البنية الوطنية الحديثة للدولة الروسية، بل أسهموا، على امتداد العقود الماضية، في تكريس مفهوم التعدّد الديني القائم على المواطنة والانتماء المشترك، جنبًا إلى جنبٍ مع الديانة الأرثوذكسية واليهودية التي حافظت بدورها على موقعها التاريخي ضمن الهوية الروسية الجامعة.

ورغم أنّ بعض التجارب الدامية في تسعينيات القرن الماضي، مثل حربَي الشيشان الأولى والثانية، قد خلقت تصدّعات موقّتة في النسيج الوطني، فإنّها لم تُنتج شرخًا دائمًا في علاقة الإسلام بالمركز الفدرالي الروسي، خصوصًا بعد أن نجح الكرملين في مطلع الألفية الجديدة، خلال المرحلة الانتقالية بين بوريس يلتسين وفلاديمير بوتين، في إعادة دمج جمهوريات شمال القوقاز ضمن المنظومة الوطنية عبر مشروع متكامل للهوية الدينية والاجتماعية.

حادثة مفتي الشيشان: جدل مصطنع أم محاولة لاختبار التماسك الروسي؟

أعادت التصريحات المنسوبة مؤخرًا إلى مفتي جمهورية الشيشان، صلاح حاجي ميجييف، حول ما قيل إنّه وصفٌ لليهود بأنّهم “أعداء الله”، فتح ملفّ الحساسية الدينية في بلدٍ يُعدّ من أكثر المجتمعات تنوّعًا من حيث الانتماءات العقائدية والقومية.

وقد سارع المفتي إلى نفي ما نُسب إليه، مؤكّدًا أنّ كلماته حُرّفت عمدًا من قِبَل جهاتٍ أرادت “بذر الفتنة الدينية”، وأنّ حديثه في برنامجٍ تلفزيوني عن “أعداء البشرية جمعاء” لم يكن موجّهًا ضدّ ديانة بعينها، بل ضدّ من أسماهم “الشرّ المتوحّد تحت علم الغرب” الذي يبرّر، باسم حرية التعبير، إهانة المقدّسات الإسلامية وحرق القرآن.

غير أنّ كبير حاخامات روسيا، بيرل لازار، رأى في تلك التصريحات “إهانةً للشعب اليهودي ولدينه”، محذّرًا من أنّها تتعارض مع روح الحوار بين الأديان التي تُعدّ من ركائز الاستقرار الروسي.

لكنّ اللافت في تفاعلات الحادثة أنّها لم تتحوّل إلى أزمة مجتمعية واسعة النطاق، إذ عبّر معظم المعلّقين الروس، بمن فيهم مسؤولون من الديانتين الأرثوذكسية واليهودية، عن قناعتهم بأنّ سوء الترجمة وسياق التحريف الإعلامي كانا وراء هذا الالتباس، في وقتٍ جدّد فيه المفتي التزامه بـ”احترام جميع القوميات والأديان والطوائف، كما أوصى النبي محمد”.

الإسلام الروسي: حضور متجذّر في الدولة والمجتمع

منذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، تعاملت موسكو بواقعية مع التنوّع الديني باعتباره مكوّنًا من مكوّنات القوة الداخلية، وليس عبئًا على وحدة الدولة.

وقد حافظ المسلمون الروس، المنتشرون في مناطق تمتدّ من تتارستان وبشكيريا إلى داغستان والشيشان، على دورهم في الحياة العامة، سواء عبر المؤسسات الرسمية أو من خلال التعليم الديني والأنشطة الاجتماعية التي تنظّمها الإدارات الروحية للمسلمين، برعاية من السلطات المحلية والفدرالية.

ويُجمع المراقبون على أنّ القيادة الروسية نجحت، خلال العقدين الأخيرين، في بناء صيغة توازن دقيقة بين الدين والدولة، تقوم على الاعتراف المتبادل بين الكنيسة الأرثوذكسية والإدارات الإسلامية واليهودية، بحيث لا تطغى إحداها على الأخرى، ولا تتحوّل أيٌّ منها إلى أداة للسياسة الخارجية أو للتجاذبات الإقليمية.

تحدّيات الخطاب الديني في زمن التوتّر الدولي

في ظلّ التصاعد الراهن للتوتّر بين موسكو والغرب، لا يمكن فصل حادثة مفتي الشيشان عن المشهد الإعلامي الأوسع الذي يسعى إلى اختبار مناعة الداخل الروسي عبر إثارة قضايا دينية حسّاسة.

فالخطاب الروسي الرسمي يميل إلى تصوير الوحدة الوطنية بوصفها “درعًا” ضدّ الاختراقات الخارجية، ويرى في الإسلام الروسي جزءًا لا يتجزّأ من هذه الوحدة، لا سيّما أنّ المجتمعات المسلمة في الاتحاد الروسي لم تنخرط تاريخيًا في حركاتٍ انفصالية ذات بعدٍ ديني بعد تسوية الملفّ الشيشاني في مطلع الألفية.

ولعلّ الرسالة التي تلقّاها المفتي ميجييف من الرئيس فلاديمير بوتين في سبتمبر 2023، شكرًا على “إسهاماته في تعزيز الانسجام الروحي بين شعوب روسيا”، تعبّر بوضوح عن استمرار الرهان الرسمي على الإسلام كعامل استقرار لا كعامل انقسام.

نحو قراءة أعمق لوحدة التنوع الروسي

إنّ تجربة روسيا في إدارة التنوّع الديني تُظهر أنّ الإسلام، بقدر ما هو مكوّن تاريخيّ في نسيجها، يشكّل أيضًا عنصر توازن روحي في مواجهة الانقسامات التي اجتاحت مجتمعاتٍ أخرى بعد سقوط الأنظمة الشمولية.

وبينما تستمرّ التحدّيات الخارجية والداخلية في اختبار هذا التوازن، يبقى واضحًا أنّ المسلمين الروس — من تتارستان إلى الشيشان — لا يرون في انتمائهم الديني ما يتناقض مع هويتهم الوطنية، بل يرون فيه امتدادًا طبيعيًا لتاريخٍ طويل من العيش المشترك، حيث تلتقي الأرثوذكسية واليهودية والإسلام في مشروعٍ واحد هو حماية روسيا من التفكك.

إعلامي وكاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى