الفلسطينيون بحاجة لمبادرة شعبية ووصاية دولية وعربية بعيدًا عن الفصائل
أحمد المصري

في هذه اللحظة الفاصلة التي يمر بها الشعب الفلسطيني، تتضح الصورة أكثر: الاحتلال مستمر في جرائمه، والفصائل الفلسطينية منقسمة، والشعب في حاجة إلى قيادة وطنية حقيقية، قادرة على حماية حقوقه، بعيدًا عن الصراعات الحزبية الضيقة. السؤال الجوهري: ماذا فعلت حركتي فتح وحماس خلال المواجهات المصيرية، وما هو دورهما الحقيقي في حماية القضية الفلسطينية خلال السنوات الماضية؟ ولا نريد استجلاب وقائع تاريخية تثبت فشل كل الفصائل الفلسطينية على خلال السنوات ال70 الماضية.
الواقع يكشف فشل حركة فتح بشكل صارخ على مستوى القيادة والسياسات التنفيذية. فقد فضلت الحركة الوقوف في الصفوف الخلفية، بل ومارست أدوارًا تتناقض مع جوهر المقاومة الفلسطينية. أجهزة السلطة عملت على إحباط أي عمل مقاوم للاحتلال؛ ففي نابلس تم تفكيك العرين تحت شعارات براقة، وفي جنين حوصر المخيم، وتواطأت أجهزة السلطة مع الاحتلال بحجة مطاردة الخارجين عن القانون. النتيجة كانت انسحاب قوات السلطة وترك الطريق ممهّدًا لدبابات الاحتلال، وهو ما يعكس فشلًا استراتيجيًا واضحًا في حماية الشعب والمقاومة المسلحة.
إلى جانب ذلك، أطلقت آلة الدعاية التابعة للسلطة حملات تضليل واسعة، وصف فيها المقاومون بأنهم “خارجون عن القانون” و”يتلقون أوامرهم من الخارج”، بمشاركة الذباب الإلكتروني وأجهزة الأمن، في محاولة لإفراغ المقاومة من مضمونها الوطني. حتى في قطاع غزة، انشغل بعض كوادر فتح بحملات تشويه ضد “رجال الله”، وروجوا لأقوال مغلوطة عنهم وحرّضوا أفرادًا على محاربتهم، ما وضع فتح في موقع معارض داخلي للمقاومة بدلًا من أن تكون داعمًا للشعب الفلسطيني.
هذا التوجه لا يقتصر على الأداء العسكري والسياسي فحسب، بل يمتد إلى السيطرة على القرار السياسي، كما يظهر في رفض فتح لترشيح شخصيات مستقلة وموثوقة لصالح الحركة على أساس الانتماءات، حتى لو كانت هذه الشخصيات تحظى بإجماع الفصائل. هذه السياسة تؤكد أن فتح تضع الولاء الحزبي فوق المصلحة الوطنية، وهو ما يساهم في إضعاف اللحمة الفلسطينية وتفتيت الصف الوطني.
لكن النقد لا يجب أن يقتصر على فتح فقط. حركة حماس، التي تصنف نفسها كحركة مقاومة، أظهرت إخفاقات استراتيجية واضحة، أبرزها ضعف التخطيط الداخلي وإدارة الأزمات، ما أدى إلى تشتت الجهود وتأخير الاستجابة للحماية المدنية والمقاومة الفعلية أثناء التصعيد العسكري.
إضافة إلى ذلك، احتكار حماس للقرار السياسي في غزة وغياب التنسيق الفعال مع الفصائل الأخرى أدى إلى عزلة القطاع على المستوى الوطني والإقليمي، وجعل المقاومة الفلسطينية أكثر عرضة للتفكك، خاصةً في مواجهة التصعيد العسكري الكبير من قبل الاحتلال. بعض سياسات حماس الإدارية، بما في ذلك التضييق على المعارضة السياسية والمجتمعية، أضعفت قاعدة الدعم الشعبي لها، وجعلت بعض فئات المجتمع تتردد في الانخراط المباشر في المقاومة.
تجارب السنوات الماضية أثبتت أن المحاصصات الحزبية والولاءات الضيقة غالبًا ما تتقدم على المصلحة الوطنية. الانقسام بين فتح وحماس، والتضارب في الأدوار والمسؤوليات، جعل الشعب الفلسطيني مكشوفًا أمام آلة الاحتلال، بينما الفصائل منشغلة بصراعاتها الداخلية. الفشل ليس مجرد إخفاقات عسكرية أو سياسية، بل يمتد إلى أزمة تمثيل وقيادة وطنية غير فعالة، وعجز عن توحيد الصف الفلسطيني في مواجهة الاحتلال أو حماية المدنيين.
الخبرة التاريخية الفلسطينية تؤكد جدوى إشراف خارجي مؤقت لضمان استقرار وإدارة الأراضي الفلسطينية في غياب قيادة وطنية متحدة. منذ 1948 وحتى 1967، كانت الضفة الغربية تحت الوصاية الاردنيةوقطاع غزة تحت الوصاية المصرية، ما ضمن نوعًا من الاستقرار النسبي وإدارة شؤون السكان قبل حرب 1967. هذه التجربة التاريخية تظهر أن إشراف مؤقت من قوة إقليمية أو دولية ليس تدخلًا دائمًا، بل يمكن أن يكون وسيلة لحماية الشعب وتنظيم إدارة حقيقية للقضايا الوطنية.
في ظل هذا الواقع، لم يعد خيار الانتظار ممكنًا. الشعب الفلسطيني بحاجة لأن يأخذ المبادرة بنفسه، مع وصاية دولية وعربية مؤقتة تضمن نزاهة العملية الانتخابية، وتهيئ الظروف لانتخابات فلسطينية حقيقية، تفرز قيادة وطنية مستقلة عن المصالح الحزبية والفئوية. القيادة الجديدة يجب أن تكون مرتكزة على المصلحة الوطنية العليا، وليس على المكاسب الشخصية أو الحسابات الحزبية الضيقة.
التاريخ يقدم دروسًا واضحة:
كوسوفو بعد حرب 1999: تدخلت الأمم المتحدة لإدارة شؤون الدولة مؤقتًا والإشراف على انتخابات حرة، ما أتاح للشعب اختيار قيادته بحرية.
جنوب السودان بعد اتفاقية السلام (2005–2011): أشرفت الأمم المتحدة على الاستفتاء وإجراء الانتخابات، مما سمح للشعب بتأسيس دولة جديدة وفق إرادته.
ليبيريا بعد الحرب الأهلية (2003–2006): تدخل الأمم المتحدة لضمان حكومة مدنية منتخبة، بعيدًا عن ميليشيات الحرب.
هذه الأمثلة تثبت أن الوصاية الدولية المؤقتة ليست تدخلاً دائمًا، بل أداة لتمكين الشعب من اختيار قيادته بحرية وبناء مؤسسات مستقرة.
الشعب الفلسطيني يستحق أكثر من أحقاد حزبية وأجندات ضيقة. ما يحدث اليوم يضع على عاتق المجتمع الدولي والفلسطينيين مسؤولية تمكين الشعب من اختيار قيادته، ووقف الحملات الداخلية، وتوحيد الجبهة الوطنية. التاريخ سيذكر من وقف مع شعبه في ساعة الحسم، ومن اختار الصف الخلفي.
ما نشهده اليوم من محاولات لإعادة إنتاج قيادة فلسطينية جديدة من ذات الطينة القديمة ليس إلا تكرارًا للخطأ التاريخي. توقع أن تأتي هذه القيادة بنتائج مختلفة بعد سنوات من الفشل المستمر هو قمة السذاجة السياسية. الشعب الفلسطيني جرب كل الأساليب التقليدية، من فتح إلى حماس، ومن المحاصصات الحزبية إلى الصراعات على النفوذ، وكانت النتيجة دائمًا فشلًا ذريعًا في حماية الأرض والمواطنين.
الرسالة واضحة: المبادرة الشعبية، الوصاية الدولية والعربية، والانتخابات الوطنية الحرة هي الخطوة الأساسية لإنقاذ القضية الفلسطينية وضمان موقف وطني موحد يليق بتضحيات الشعب، ويعيد بناء قيادة وطنية مستقلة وفعالة، قادرة على مواجهة الاحتلال وحماية حقوق الفلسطينيي